هوية الفرد في أزمنة المدن



 تطبيق سيميائي لنظرية “القارئ الضمني”

على ديوان “القفز في المنتصف” للشاعرة العمانية: فتحية الصَّقري الجزء (1)

حامد بن عقيل

مجلة الفلق 

إعادة إنتاج النّص:

يتضمن كل عمل أدبي أو فنّي مستويين من الدلالة؛ مباشر ظاهر، وآخر ترميزي كامن، هذه هي النظرة التأويلية التقليدية للنصوص والآثار الفنيّة. وهي النظرة التي كانت فاعلة في قراءة وتحليل النصوص حتى سبعينيات القرن العشرين، حين تبلورت نظريات جماليات التلقي، وأصبحت حقيقة تطبيقية في الدراسات النقدية، وهي النظريات التي اقترحتْ مستوى ثالثا يضاف إلى المستويين السابقين لتحليل النصوص الأدبية وقراءة الآثار الفنيّة، المستوى الذي لم يكن مطروحاً للنقاش ولا للتطبيق، حتى على الرغم من “موت المؤلف” وقيام النص كأثر وحيد يتم العمل عليه. ذلك المستوى الذي كان مُغفّلا عند تناول النصوص ودراستها؛ ألا وهو مستوى جمالية التلقي بوصفه تفعيلاً للنص، فلم يعد مقبولاً الاكتفاء بمجرد وصف العمل الأدبي؛ لأن الوصف للعمل الأدبي لا يكون: “إلا تكراراً حرفيا للعمل نفسه، فهو يلاحق عن قرب أشكال العمل، بحيث لا يكوّن الاثنان شيئاً واحداً، فالوصف الأفضل للعمل هو العمل نفسه” (تودوروف، 1990: 21)، وهو المستوى الذي ينطلق من حقيقة أن العمل الأدبي أو الفنّي لا وجود له إلا بوجود قارئه، ولا يتحقق إلا على يد القارئ كما يشير سارتر، فالنّص: “لا وجود له في الحركة، ولأجل استعراضه أمام العين لا بد من عملية حسيّة تُسمى: القراءة. وهو يدوم ما دامت القراءة، وفيما عدا هذا لا يوجد سوى علامات سوداء على الورق” (سارتر، 1990: 43)، لأنه بلا قراءة لا يقدّم شيئا، إذ يكون مجرد موضوع جمالي كامن لا حياة فيه: “النص ذاته لا يقدّم إلا مظاهر خطاطيّة يمكن من خلالها أن ينتج الموضوع الجمالي للنص، بينما يحدث الإنتاج الفعلي من خلال فعل التحقق. ومن هنا يمكن أن نستخلص أن للعمل الأدبي قطبين؛ قد نسميهما: القطب الفنّي والقطب الجمالي، الأول هو نص المؤلف، والثاني هو التحقق الذي ينتجه القارئ. وفي ضوء هذا التقاطب يتضح أن العمل ذاته لا يمكن أن يكون مطابقا لا للنص ولا لتحققه؛ بل لا بد أن يكون واقعا في مكان ما بينهما” (أيزر، 1987: 12)، وهذه العملية تضاف إلى المعنى التأويلي الكامن للنصوص المفتوحة، أي أنها تصبح ضلعاً ثالثاً، له علاقة بالنّص في مستوييه التدليلي والترميزي، لكنه يكون الأقرب من عملية التأثير في المتلقي ورصد هذا الأثر وشكله وحدوده: “المعنى بوصفه نتيجة للتفاعل بين النص وبين القارئ، أي بوصفة أثراً يمكن ممارسته، وليس موضوعاً يمكن تحديده” (هولب، 1994: 202)، وبهذا تكون عملية القراءة هي عملية ممارسة تتعدد بتعدد القراء، فلكل قارئ موسوعته وثقافته التي تضيف إلى النص، وهو -أي القارئ- من يبث الحياة في النص الأدبي ويعطيه معناه: “العمل الفني لا وجود له إلا حين النظر إليه” (سارتر، 1990: 55)، لأن المتلقي يستمتع بقراءته وتأويله لكونه منتجاً له من جديد؛ فإذا كان المؤلف قد أنتج النص الفنّي، فإن على القارئ أن يُنتج النص الجمالي للأثر ذاته : “متعة القارئ تبدأ عندما يصبح هو نفسه مُنتِجاً” (هولب، 1994: 232).

القارئ الضمني:

تهتم نظرية التلقي بالقارئ عن طريق إثارة الأسئلة حول دوره في تفعيل النص وتحقيق معناه؛ فتجاوزت بذلك في أطروحاتها المناهج التقليدية التي وسَمت الدراسات النقدية لزمن طويل، و أصبح ظهور النص مرتبطا بقراءته تبعا لتحول وعي القارئ وتغير آفاق انتظاره وتوقعاته، ويكون كل ذلك له علاقة باختلاف وتباين المرجعيات الثقافية والسياقات المشكّلة لهذه القراءة، و أصبح تاريخ الأدب سيرورة تلق و إنتاج جماليين يتم فيهما تفعيل النصوص الأدبية من قبل القارئ النّشط الذي يجد نفسه مدفوعا إلى أن ينتج بدوره البعد الجمالي لنص قام مؤلف ما بإنتاج بعده الفنّي.  وإن كان بعضهم يرى أن “أمبرتو إيكو” هو أول من حدد هوية القارئ الضّمني حين أشار إلى الموسوعة القرائية للمتلقي، وتحدّث عن القارئ النّشط في كتابه “الأثر المفتوح”، إلا أن أبرز منظّري جماليات التلقي هما “هانز روبرت ياوس”، و”فولفغانغ آيزر”، ولعلّ أهم ما جاء به الأوّل هو أفق التوقعات الذي استخدمه في وصف المقاييس التي يتّبعها القرّاء في الحكم على النصوص الأدبيّة في أي عصر من العصور، بينما جاء الثاني بنظرية القارئ الضمني ونظرية سدّ الفجوات.

وجمالية التلقي، هي نظريّة: “توفيقية تجمع بين جماليّة النص وجمالية تلقيه، استناداً إلى تجاوبات المتلقي وردود فعله باعتباره عنصراً فعّالاً وحيّاً، يقوم بينه وبين النص الجمالي تواصلٌ وتفاعل فنّي ينتج عنهما تأثر نفسي ودهشة انفعالية، ثم تفسير وتأويل، فحكمٌ جماليٌ استنادا إلى موضوع جمالي ذي علاقة بالوعي الجمعي” (سمير، 2005: 14) فيندمج القارئ مع النص؛ إذ لا يمكن الفصل بين الذات؛ المتلقي وبين الموضوع؛ النّص، كما يقول آيزر: “إنّ المعنى لم يعد موضوعاً يستوجب التعريف به، وإنما أصبح أثراً يُعاش” (آيزر، 1992: 76). فنحن لا نصف النص بل نعيشه ونتفاعل معه ونعيد إنتاجه، فـ: “الشيء الأساسي في قراءة كل عمل أدبي هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه” (أيزر، 1987: 12). والنص بهذا عمل فني قام مؤلفه بإنتاجه وهو يضمر متلقٍ ما، لأن الأعمال الأدبية، والآثار الفنية، ليست أكثر من أنشطة إنسانية ينتجها أفراد يرومون وجود من ينظر إليها ويقوم بتفعيلها، فهي -على الدوام- موجهة إلى متلق كامن في لا وعي المؤلف: “إن العمل الأدبي ينطوي في بنياته الأساسية على متلقٍ قد افترضه المؤلف بصورة لا شعورية، وهو متضمن في النَّص” (خضر، 1997: 147)، فالعمل الأدبي مجرد معنى محتمل، لا يتحقق إلا من قبل متلق يتطلّع إليه كل نص، ذلك المتلقي الذي هو “القارئ الضمني” الموجود على الدوام في ذهن كل كاتب: “إنّ المصطلح يدمج كلاً من عملية تشييد النص للمعنى المحتمل، وتحقيق هذا المعنى المحتمل من خلال عملية القراءة، إن جذور القارئ الضمني مغروسة بصورة راسخة في بنية النص؛ إنه بنية نصّية، تتطلع إلى حضور متلقٍ ما” (هولب، 1994: 205). لكنه غير محدد كما في نظرية “المروي له” لجيرالد برنس، فالمروي له يحضر في النص بصورة جلية مباشرة كأن يتجه الكاتب بخطابه إليه مباشرة، كما في رواية “دفاتر فارهو” لليلى عبدالله، التي سترد معنا لاحقا في هذا الكتاب، إذ يتوجه فارهو بخطابه إلى “كارل”، وقد يحضر المروي له على هيئة عبارات في النص تشير إليه بطريقة ما، كأن يكتب المؤلف مفردات مثل: “سيدتي، سيدي”، أو حتى يمكن تبين ما يتوقع الكاتب من مستوى إدراكي للمروي له، ويضرب برنس مثالا على ذلك بقوله: “عندما يكتب ترولوب: كان كبير الشمامسة رجلاً دنيوياً، من منّا ليس كذلك؟، نفهم من ذلك أن الأشخاص المروي لهم هم كما الراوي يدركون ماهية الضعف البَشري” (سلدن، 2001: 106). لكن القارئ الضمني ليس من الوارد أن يظهر للمتلقي، إذ إنه مجرد بنية نصيّة كامنة في لا شعور الكاتب: “فالقارئ الضمني هو بنية نصيّة تتوقع حضور متلقٍ دون أن تحدده بالضرورة” (آيزر، 1987: 30). وهو لا يتطابق بأي حال مع القارئ الحقيقي للنص، لأن القارئ الضمني جزء من بنية النص: “القارئ الضمني كمفهوم، له جذور متأصلة في بنية النّص، إنه تركيب لا يمكن بتاتاً مطابقته مع أي قارئ حقيقي” (آيزر، 1987: 30).

علاقة القارئ الضمني بملء فجوات النّص:

حين يتوجه الكاتب بخطابه الأدبي نحو قارئ ضمني، وهو ما لا مناص منه، فإنه يطمح إلى وجود عملية تلق تعيد للنص حياته؛ إذ إن النص من دون القراء مجرد علامات سوداء على الورق، بحسب سارتر، كما أنه يرغب في وجود عمليات “تحقيق” لعمله الفني الذي أنجزه، من خلال تلق جمالي يقوم بها قارئ وظيفته تكمن في ملء الفراغات وسد الفجوات: “ربما تكون أهم فعالية للقراء هي المتمثلة في ملء فراغات الغموض بالتجسيم فهو يُعدّ جزءا هاماً من إدراك العمل الأدبي للفن” (عبدالواحد، 1996: 24)، من أجل: “اكتشاف ما لم يقله النص من خلال ما قاله بالفعل” (أبوزيد، 1992: 36). أي أن هناك قسمًا مسكوتًا عنه في كل نص أدبي، قسم ينتظر القارئ ليحدده ويعيد إنتاجه من خلال عملية التفاعل أولاً، والتي ستؤدي إلى تأويل النص وتفعيله لاحقا، فالقارئ يتفاعل مع النص من خلال الفراغات: “لأنها المجال الخصب الذي تتولى القراءة إثراءه في ضوء لعبة الضياء والظلام التي يثيرها النّص، في اعتماده الكشف والخفاء، التصريح والسكوت والإشارة والإهمال” (مونسي، 2000: 112)، فجميع النصوص الأدبية، والآثار الفنية، ما هي إلا طلب استجابة، حين ندرك: “أن النص نداء وأن القراءة تلبية للنداء” (الواد، 1985: 70).

“القفز في المنتصف” والمسكوت عنه:

فتحيّة الصقري، شاعرة من عُمان. صدر لها خمس مجموعات شعرية: “جمهور الضحك” 2016، و”أعيادي السرية” 2014، و”قلب لا يصلح للحرب” 2014، و”نجمة في الظل” 2011، ثم مجموعتها الأخيرة “القفز في المنتصف” 2019. وتتكون المجموعة الأخيرة من ستة عشر نصّاً، أخذت عنوانها من النص الرابع قبل الأخير “القفز في المنتصف” (الصقري، 2019: 79)، والذي يبدأ بفقرة شعرية مكثّفة تشير إلى ما تريده الشاعرة: “هذا ما كنتُ أريده بالضّبط/ ثقبٌ هائلٌ في أرضيّة الصّمت/ يلتهم كومة الملابس المتّسخة يومياً/ ويترك بالي نظيفاً” (الصقري، 2019: 81)، وهو جزء دال على الفضاء الدلالي الذي تنفتح عليه المجموعة بكاملها، من مقابلة المحسوس “ثقب” بغير المحسوس “أرضيّة الصمت”، واتساخ الملابس بنظافة البال، كل هذا يتمّ في ضوء إرادة تامة ومحدّدة ومقصودة “ما أريده بالضبط”.

ومجموعة “القفز في المنتصف” هي أول ما قرأتُ من نِتاج للشاعرة فتحية الصقري، إذ لم أطّلع على دواوينها السابقة، ولم يسبق لي أن قرأتُ لها من قبل في أي صحيفة أو موقع أدبي. لكنها جاءت -بالنسبة لي- كمفاجأة سارّة؛ إذ تصعب القراءة لشاعرة عربية تكتب قصيدة نثر مختلفة ومميزة ولها صوتها الخاص، فكان أن اطلعتُ على تجارب مميزة للشاعرة إيمان مرسال من مصر، ومؤخراً على تجربة فريدة للشاعرة نسرين أكرم خوري من سوريا، هذا في فضاء مطالعاتي وقراءاتي فحسب، مع إيماني بأن هناك تجارب أخرى مميزة، لكن المؤكد أنها قليلة، وهي على ندرتها غائبة لم تحملها آلة إعلامية إلى متلقيها بعد، كالشاعرة فتحية الصقري؛ القصيّة رغم تميز لغتها الشعرية وتفردها. وقد خرجتُ من قراءتي الأولى المتشككة لمجموعة “القفز في المنتصف” بانطباعين، الأول، وهو إيجابي، يتعلق بكثافة لغتها الشعرية، فكل مفردة لديها عبارة عن “مقولة”، كما يصف رولان بارت قصيدة النثر، حيث: “تنفلت كثافة الكلمة من سحر الخواء وكأنها الضوضاء والعلامة بلا غور، أو كأنها الرعب والسر الغامض” (بارت، 2002: 62)، والانطباع الآخر، وهو سلبي، يتعلق بكثرة الاقتباسات في المجموعة، وتوظيف اللهجة العامية، إضافة إلى شعوري بأنها لا تعلم متى يجب عليها أن تتوقف؛ لأنها تصل في بعض النصوص  إلى مرحلة فائض المعنى الذي يشوّش على لغتها الكثيفة، وصورها الأخّاذة المتزاحمة. لكن الانطباع الأخير لا يلغي أن قصيدة فتحية الصقري، من خلال مجموعتها الأخيرة فقط (2019) -إذ لم أقرأ سواها- هي تجربة تستحق التوقف أمامها مطوّلا والإشادة بها وبلغتها الفريدة.

تبدأ الصقري مجموعتها بقصيدة “محاولة أخيرة لإطفاء حريق” (الصقري، 2019: 7)، فالديوان يبدأ بمحاولة أخيرة، ما يعني أن ما يلي هذا النص سيندرج تحت ما بعد المحاولة الأخيرة لإطفاء “حريق”، الذي يأتي نكرة بلا أل تعريف وبلا إضافة، وبلا شروحات إضافية، حتى أن “محاولة” لا تعريف لها إلا بوصفها كمحاولة “أخيرة”، ما يدل على وجود محاولات سابقة، وبالتأكيد أنها لم تكن ناجحة. ووجود “النكرة” في العتبات الدلالية للنصوص؛ عناوين نصوص المجموعة، يرد في سبعة عناوين، بدءا من “محاولة أخيرة لإطفاء حريق”، ومرورا بعناوين: “أشياء لا تصلح للتسلية/ سيرة ذاتية/ سبت الحي الجديد/ إعادة تصوير حديقة مكتئبة/ كمن سقطت على رأسه حديقة/ الرد على مكالمات فائتة”، حقل من مفردات نكرات يوصف بعضها، لكنها ترد على العكس من عنوان المجموعة وعتبته الرئيسة “القفز في المنتصف” المعرّف بكامل مفرداته، النقيض لحقل علامات يتكون من نكرات، فقط لأن تلك النصوص لا تبدأ بعبارة كالعبارة التي قفزت في المنتصف: “هذا ما كنتُ أريده بالضّبط”. ولعل القراءة الأولى، التي تبني التوقعات، توحي بأن ديوان الصقري، انطلاقاً من عنوان مجموعتها، مليء بفراغات يجبُ ملؤها، ليس لأن عناوين النصوص تتردد فيه المفردات غير المعرّفة فقط، ولكن لأن مفردة “المنتصف” التي ترد كدال على كامل المجموعة الشعرية جاءت معرّفة لتزيد الالتباس، فهو “المنتصف” المعروف وليس “منتصف” النكرة، ما يوحي بأن هناك منتصفًا متفقًا عليه ومعروف، لهذا جاءت أل التعريف لتجعل منه دالاً على قارئ ضمني يعلم ماهية المنتصف، وتبعا لذلك سيقوم بإنتاج الأثر الجمالي على أنقاض الأثر الفنّي الموسوم بـ “القفز في المنتصف”.

من الإدراك المباشر إلى الاستذهان:

إن أول قراءة لعمل أدبي ما هي إلا إدراك مباشر للمحتوى، نظرة تتم من خلالها عملية بناء التوقعات، وتكون القراءة المستمرة من بداية النص إلى نهايته عبارة عن عملية استكشاف تُبنى فيها التوقعات ثم تهدم ليعاد بناؤها، ثم تُعدّل وربما هدمت أو عدّلت من جديد. هذا الإدراك المباشر هو العملية الأولى التي ستوصلنا لاحقاً إلى عملية الاستذهان التي ما هي إلا عملية الفهم لبنية النص، بنية الفراغ التي يجب ملؤها من خلال عملية تتبع للدلالات التي تُنتَج، ويمكن استخلاصها بعد عملية الإدراك المباشر التي تمت أولا.

الإدراك المباشر؛ الآخرون هم الجحيم:

مقولة سارتر، حاضرة في ديوان الصقري منذ البداية: “أبدأُ/ بألم المعدة الحادّ/ بالحمى/ والآخرون هم الجحيم” (الصقري، 2019: 28)، ولكن الآخرين حاضرون في المجموعة، من قبل ذلك، منذ الصفحات الأولى، ومنذ النص الأول  الذي كان محاولة أخيرة لإطفاء حريق: “ستجلس مع الذين يُكافؤون شهرياً وسنوياً على تقاعسهم ولا مبالاتهم مع المفتتنين بسحق النمل بأحذية غالية وجديدة/ مع الذين يستلمون رواتبهم لقاء قضاء 90% من أوقاتهم في تربية الكسل والنمل والتثاؤب” (الصقري، 2019: 11)، إشارة لا يبدو أنها الوحيدة، فهي تتكرر خلال الديوان كثيمة في غالبية النصوص: “أبدأُ/ بالخوف والشجاعة يتبادلان الشتائم،/ مثل تاجرين يتنازعان على المكان والشهرة” (الصقري، 2019: 24)، والآخرون إن كانوا يردون بالإشارة إليهم نصّاً، فإنهم يجيئون كذلك كحضور سلبي من خلال نفي وجودهم: “لا أحد يقول للصبح: صباحُ الخير/ لا أحد يمر” (الصقري، 2019: 39)، أو من خلال وصف الهروب منهم وتعليل ذلك: “لالتقاط سيلفي أمام باب البيت، بابتسامة عريضةٍ/ دون الاصطدام، بالطبع، بوجه الجار المكفهرّ” (الصقري، 2019: 44)، والآخرون هم الجحيم لأنهم يقتحمون: “فقط حيواناتٌ، تتدافع، تركض خلف بعضها/ تدخل من شق النافذة الصغير/ أبقارٌ برؤوس كبيرة/ ثيرانٌ بعيون نصف مفتوحة/ قطيعٌ من الماعز والخرفان/ رسائل شكوى من بقايا الحيوانات الملقاة في كل مكان/ أخبار البلديات” (الصقري، 2019: 50)، ويكون اقتحامهم بديلاً عن كل ما تأمله الشاعرة في: “أول يوم إجازة/ حيث لا عصافير/ ولا مهرجانات/ ولا تأملات/ فقط حيواناتٌ، تتدافع، تركض خلف بعضها ” (الصقري، 2019: 50).

والآخرون تهديد وحشيٌ صريح للهوية: “أمشي بجانب الأشجار، وأنسى أنني عثرتُ على اسمي بالصدفة محشوراً بين فكّين، أو (مجعلكاً) على الأرضِ إثر قبضة متوحّشة” (الصقري، 2019: 56). ويحضرون في الخيارات التي يبدو أنها محدودة، فالشاعرة تنادي “الكسل” لتتدرب على السلبية: “تعالَ، وأحضر معك كل من يشبهك/ لا فرق بين مجتهد وبليد” (الصقري، 2019: 61)، فحتى المجتهد يشبه الكسل. والآخرون هم بيئة العمل الشاقّة: “العمل/ المشي اليومي على الأشواك/ مشوار ضبط النفس/ التحديق الممل في مستطيل فارغ” (الصقري، 2019: 77)، وهم الذي يحني المرء إلى التراب لأنهم هم الزمن الفادح الذي يجب التغلّب عليه: “تلك هي الخلاصة، تلك هي القضية الوحيدة، فلكي لا تشعروا بعبء الزمن الفادح الذي يحطّم كواهلكم، ويحنيكم إلى التراب، لا بدّ لكم من أن تسكروا، بلا هوادة” (الصقري، 2019: 83)، فترويض الواقع والتأقلم معه يبدو مستحيلا: “من الأفضل إزاحة أصابِعَك من وجه النمر،/ والتخلي الكامل عن كلمة (ترويض)” (الصقري، 2019: 95).

إنهم الآخرون، الجحيم الذي تصفه الشاعرة في آخر نصوص المجموعة “الخروج من الحلبة”، بعد أن تخلت في النص السابق عن كلمة ترويض، وكان تخليا كاملا، ليأتي وصف الآخرين بالتحديد بنهاية المجموعة: “الذين يملكون مكاناً، ومساحة لإدارة مصنع الكذب، والأخطاء الكبيرة،/ الذين يعرفون كيف تُدار الغابة، ومتى يكون اليسار هو اليمين، واليمينُ هو اليسار” (الصقري، 2019: 99)، وهي نتيجة حتمية، فقد بدأ الديوان بمحاولة لإطفاء حريق، وكانت محاولة أخيرة، لكنها لم تنجح، لنصل إلى حتمية الخروج من الحلبة، ففي مواجهة الآخرين، الذين هم بالضرورة جحيم مستمر، انتهت الشاعرة إلى الانسحاب الكامل من وجه النمر؛ فالفرد غريب الأطوار الذي يرقص هناك وحيدا، يبدو وسط كل هذا الجحيم مجرد مشروع معرض للنهش: “هل تبدو شخصاً غريب الأطوار؟/ وأنتَ ترقص وحدك هناك، بينما يتدافع الجميع هنا؛ للحصول على مقعدٍ في حافلةٍ، يقودها تاجر محترف./ هل تبدو مشروعاً فاشلاً قابلاً للنّهش؟” (الصقري، 2019: 101).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم

ليستْ كلُّ الأشياءِ مسلّية