هوية الفرد في أزمنة المدن ج2


تطبيق سيميائي لنظرية “القارئ الضمني”

 

على ديوان “القفز في المنتصف” للشاعرة العمانية: فتحية الصَّقري الجزء (2)

 

حامد بن عقيل

 

مجلة الفلق 

 

مستوى الاستذهان، مصنع الكذب:

 

مستوى الإدراك يتناول ما ذُكر في النصوص، لكن يليه مستوى الاستذهان لمعرفة ما لم يُذكر من خلال ما ذُكر، لأن النص الأدبي مهمته تحفيز القارئ الضمني ليخوض في النص ويقوم بتفعيله، وأن: “يجذب القارئ داخل الأحداث ويضطر إلى إضافة ما يفهم مما لم يُذكر. وما يذكر لا يكون له معنى إلا كمرجع لما لم يذكر. إن المعاني الضمنية، وليست ما يُعبّر عنه بوضوح، هي التي تعطي شكلاً ووزناً للمعنى” (أيزر، 1987: 10)، فقراءة النص تفعيل له، وتكوين للمعاني المثالية: “الموضوعات الواقعية ينبغي فهمها، والموضوعات المثالية ينبغي تكوينها، وفي كلتا الحالتين فالنتيجة نهائية من حيث المبدأ؛ فالموضوع الواقعي يمكن فهمه بشكل تام، والموضوع المثالي يمكن تكوينه بشكلٍ تام” (أيزر، 1987: 102)، وكل ذلك لا يتم إلا من أجل قراءة منسجمة للنص: “استجابة القارئ تتجسّد في شكل معانٍ وموضوعات جمالية تضمن للنص التماسك والانسجام” (سمير، 2005: 26)، إنها عملية تعاون، فالنصوص، والآثار الفنيّة لا وجود لها إلا من خلال المتلقي: “تعاون المؤلف والقارئ في مجهودهما هو الذي يخرج إلى الوجود هذا الأثر الفكري، وهو النتاج الأدبي المحسوس الخيالي في وقت معاً. فلا وجود لفنٍ إلا بواسطة الآخرين ومن أجلهم” (سارتر، 1990: 49).

 

ونصوص “القفز في المنتصف”، وإن كانتْ في مستوى الإدراك الأول لها، تدين الآخرين، وتوزع علامات دالة عليهم بامتداد نصوص المجموعة، وهي تشير إليهم وإلى أثرهم كجحيم لا يمكن التعايش معه، إلا أن مستوى استذهان النّص يحدد لنا طبيعة الآثار السلبية لوجود الآخرين المختلف حين يصبح تهديدا للهوية الفردية. فالمجموعة تبدأ بمحاولة أخيرة لإطفاء حريق، ثم بالقفز في المنتصف لتنتهي بالخروج من الحلبة، رحلة طويلة من النص الأول وحتى الأخير، من المحاولة، إلى القفز، ثم إلى الانسحاب، كإعلان نهائي لحتمية فقدان الهوية، وحتمية الخسارة في مواجهة الآخرين لأنهم مؤهلون: “لإدارة مصنع الكذب، والأخطاء الكبيرة،/ الذين يعرفون كيف تُدار الغابة، ومتى يكون اليسار هو اليمين، واليمينُ هو اليسار” (الصقري، 2019: 99)، ويمكن في مجموعة :الصقري” تتبع الكثير من مظاهر صراع الهوية مع الآخرين، لكنني سأكتفي بالإشارة إلى بعض منها:

 

1/ فقدان الهوية الفردية:

 

حين يفشل الفرد، داخل أي جماعة، عن الإجابة على سؤال “من أكون؟” فإنه بهذا يكون مصابا بتشتت الهوية، مهددا بفقد معناها، فالأفراد بوصفهم مكوّنات المجموعة وأساسها: “إذا فشلوا في [تحديد الكينونة] فإنهم سوف يعانون من تشوش الدور أو عدم وضوحه” (باربرا، 1991: 194)، فالتجمعات الإنسانية قائمة على تحديد الأدوار، ومعرفة كل فرد فيها ما يراد منه، وما ينبغي عليه فعله: “أشياء تسحبني للأعلى/ أشياء للأسفل/ لليمينِ لليسار../ لا أستطيع فكّ الاشتباك” (الصقري، 2019: 9)، ففي الفضاء الاجتماعي الذي تقاومه الشاعرة نجد أن الحقوق والواجبات غائبة، كذلك الماهية، فهي معرّضة للاستلاب والتلاعب بها في جميع الاتجاهات، ما يجعل بعض الشخصيات داخل المجتمع رهن خيالاتها في إيجاد كينونة أخرى لا علاقة لها بالواقع المشتبك العاجزة عن فهمه: “أتخيّل بعد أن ينتهي كل شيء/ أن تصير روحي عُشَّاً في غصن، أو مقعداً/ في حديقة” (الصقري، 2019: 54)، لأن تشتت الهوية يسبب أزمة عدم فهم، وبالتالي عدم توافق، ففي نص “وقتُ الكلام” الذي يبدأ بسؤال: “ما الذي يؤلمك؟”، يأتي النص بكامله للإجابة عليه، ومن ذلك: “الرؤوس الكبيرةُ والصغيرةُ التي حفظتْ اسمي في جدول مهامها اليوميَّة./ طرف المسدّس المغروس في ابتسامة واضحة” (الصقري، 2019: 88)، فالجميع يمارس هدم الهوية الفردية ويقتحمها، الصغار مثل الكبار، الابتسامات الملغومة التي تقتل الهوية، فالاسم محفوظ كمهمة لا أكثر، وهو مدرج في جدول يوميات الآخرين، ما يخرجنا من فهم التفاعل الإنساني القائم على الحب والذي يقر بالهوية واختلافها ويتفهّمها إلى فهم أن ما يحدث هم نقيضه تماماً: “حتى تتعوّد على غمس روحك يومياً في بيئة مليئة ببكتيريا المجاملات” (الصقري، 2019: 11).

 

2/ الزيف والتدّجيل:

 

الوضع في العالم العربي، في غالبيته، يمارس تزييفاً لهويات الأفراد، فالمجتمعات العربية مجتمعات تقرّ بالمشاكلة والمماثلة للجميع ولا تقرّ بالتفرد، وأنظمتها تعمل، في ضوء ذلك، من خلال مؤسساتها الدينية والإعلامية، وحتى الثقافية، على خلق هويّة عامّة، بأهداف معلنة هي خلق هوية اجتماعية، لكنها تسقطها على الأفراد دون مساءلة لوجود مشكلة التفردية. هذا ما يخلق جوّا عاما، يشعر فيه الفرد بالاستلاب، لأن البعض يعي ما يحيط به من عمليات ممنهجة للتدجيل والتزييف: “الهوية في العالم العربي الراهن ليست شيئا آخر غير الزيف والتدجيل” (العظمة، 2005: 17)، وغالباً ما يتم استلال الهوية المراد تعميمها من الماضي: “أتأخر عن الخروج من بيتٍ طيني قديم، طيَّرتِ الرّيحُ سقفَه وأبوابه، بينما لا تزال جدرانه المتآكلة تحتفظ بقطَّة شوارع سوداء” (الصقري، 2019: 19)، فالوطن، والمجتمع الذي يعيش ماضيه ويستلهمه لن يكونا للبعض سوى بيت طيني فقد سقفه وأبوابه، وبقيت جدرانه المتآكلة لتأوي شكلاً من أشكال الهوية لا يمكن فهمه، لأنه تعميمي يراد به إخضاع الأفراد، بكل ما ترمز إليه “قطة شوارع سوداء” من السحر والشعوذة والدجل والتشرد. كل هذا يحدث لعدم الإقرار، المجتمعي والوطني، بحتمية وجود الاختلاف، ففي نص “يحدث دائماً في مثل هذا الوقت”، وحين تتدفق الشاعرة في وصفها لعروض الأزياء التي تحب، ترد الألوان والبهجة والقمصان ووصف مشي العارضات، ثم: “فمٌ يعضّ، ويخرج لسانَه/ يدٌ تصفع/ خرطوم مياه يرش وجه العالم بالألوان/ شاعرٌ سكران/ رقصة جماعية/ طاووس يتجوَّل في حلبةٍ/ أجراس ضخمة، تتحرك، بلا صوت/ سفينةٌ تغرق” (الصقري، 2019: 52)، ذلك الاختلاف الذي لن يكون منسجماً، فالاختلافات في الوطن العربي تؤدي إلى التناحر، غرق السفينة، لأنها منذ البدء لم تقم بتغذية تفرد الهوية كرافد من روافد التكامل والنمو. وهذا الوضع العام، حتى وإن غاب فإنه لا يلبث أن يعود: “أشياء قديمةٌ تختبئُ، لفتراتٍ قصيرة، ثم تعودُ بأسماء وعناوين جديدة:/ العيون الكثيرة العالقة في قلبي/ الهدوء الذي يأتي مرّة واحدة في الأسبوع/ مشقّة العمل بجانب الموتى” (الصقري، 2019: 56)، فهي بيئة طاردة لا تصلح للعيش، لإن قوامها التزييف والدَّجَل، بدلالة “تختبئ” التي لا يرد بديلا عنها مفردة تدل على الاختفاء مثلا، بل اختباء؛ دلالة التلاعب والتزييف، والذي لا ينتهي حتى يصبح الفرد كما يريد له الوطن، بأن يكون مماثلاً ونسخة مكررة: “لستُ وطناً صالحاً؛/ ليرقصَ الطبَّالون تحت سقفي” (الصقري، 2019: 101).

 

3/ فقدان الثقة بالنَّفس:

 

في ضوء إنكار التفرد، داخل المجتمعات القمعية، وما تقوم به من تزييف ودَجَل لا بد أن يفقد الأفراد الثقة بالنفس، وأن يصبحوا أدوات سلبية تغذي عملية التزييف العامة: “إن انهيار احساس الثقة بالنفس والآخر، داخل أنظمة القيم الثقافية، وداخل الأنظمة الاجتماعية، من شأنه أن يعزز مواقف اللا مسؤولية وأن يؤدي إلى نمو النزعة السلبية والاتجاهات الفردية” (ميكشيللي، 1993: 145)، فقد يتحول الصوتُ إلى مجرد حمولة زائدة لأنه غير مسموع، بل لا يُراد له أن يظهر، وأن يتحول جزء من الفرد ذاته إلى أداة قمع لحلمه بأن يتفرّد ويثمر : “صوتك عربةٌ بحمولةٍ زائدةٍ تجرُّها كائناتٌ برمائية/ ذراعاك أغصانٌ متشابكة تمنع شجرةً من الطيران” (الصقري، 2019: 9)، وبهذا يغوص في موجوداته الخاصة، يحوّلها إلى عالمٍ موازٍ من خلاله يتحرر في أحلامه فقط: “سأظنّ دائماً أنّ هذه الكنبة قاربٌ، وأنَّ هذا السرير طائرةٌ تشقّ طريقَها وسط الغيوم” (الصقري، 2019: 43)، وهي الأحلام التي لن تكون سوى محاولات فاشلة لتفادي العبثية والتزييف، وكذلك عدم الفهم في توزيع مقدرات الوطن وثرواته، المحاولات التي لا تتوقع إيقاف ذلك بل تريد تفاديه والنجاة منه: “أبدأُ/ بالعمليات الفاشلة لتفادي الارتطام/ بالكراسي الطائرة” (الصقري، 2019: 28)، كما أنها محاولة للتخلص من الأعباء، تلك التي تتكرر ولا تنكسر، بل تعود من جديد في كل مرّة: “ألقي بالأعباء الكثيرة، واحدةً تلو الأخرى/ في الأدراج، في الطاولة، على أرضيّة الغرفة/ بعضُها يتدحرجُ، بعضها يتصدّع،/ وبعضها يرتطم خمس مرّاتٍ بالجدار،/ مثل كرةٍ من المطاط، ولا ينكسر” (الصقري، 2019: 49). أما حين تفشل كل محاولة للنجاة فإن البحث عن الحلول السحرية يكون مبرَّرا: “لماذا لا أجمع كل الأيام في سلة الفواكه،/ وأحشرها في ماكينة العصائر،/ وأقدمها عصيراً طازجاً للمتحلّقين حولي:/ الميل، الشفقة، الحنوّ، الرّقة” (الصقري، 2019: 51)، فلا نجاة متوقعة، لأنهم يحاصرونك، يتحلّقون بك على هيئة مشاعر متناقضة، ما يجعلك تتعددّ في النهاية، فتفقد ماهيتك: “أطبعُ أسماءَ روحي على جدرانهم/ هواء، عصفور، مطرقة، قطرة ماء، سيّار” (الصقري، 2019: 55). والشاعرة تعي كل هذا، حتى وهي تخاطب الكسل: “تعال، واحضر معك كل من يشبهك/ اللا مبالاة، التبلدَ، فقدانَ الشعور/ تعالوا جميعاً/ تعالوا متحدين متفقين/ على إصلاح إنسان طائش/ على احتواء إنسان مجنون/ وتهدئة روحِهِ” (الصقري، 2019: 64). وكنتيجة لا بد من وقوعها، في ضوء غياب الهوية وتشتتها، أن يقرّ الفرد ببعض أسباب وجود هذا العالم الآيل للسقوط من حوله: “ليس مصارعاً قوياً/ من يوقفه تحليق فراشة، .. ليس مصارعاً جديراً بالفوز،/ من يتصوّر أن الغزال المرسوم في الصحن، يركض في عشب روحه،/ ليس مصارعاً جادّاً،/ من يذهب مبكّراً للنّوم” (الصقري، 2019: 99)، فشروطهم للانصهار في الهوية الجمعية لا تنطبق على الفرد، بل لا تلقي لاهتماماته وخصوصيته بالاً، وبالتالي لا تعتبره جديراً بأن يقتسم حصته من الاعتراف الاجتماعي بماهيته.

 

4/ التناقض والقيم المتضاربة:

 

يكون الفرد ذو حساسية خاصّة حين يعي الأطر العامة والقوانين، نعم، القوانين معلنة، والمؤسسات التربوية تدعمها بالقيم الأخلاقية، ورجال الدين على المنابر ينادون بها، والإعلام الرسمي يفرد لها صفحاته وقنواته، كل هذا واضح، لكن حين تغيب العدالة الاجتماعية يحدث الخلل، تفقد هوية الفرد تماسكها، فالقوانين المعلنة لا تحقق العدالة الاجتماعية؛ نتيجة ثنائية غير مفهومة، فما يُقال شيء، وما يحدث على أرض الواقع شيء آخر: “الذات لا يمكنها أن تكون قوية متماسكة لأنها محاطة بأطر منطقية ونماذج متضاربة ومتناقضة” (ميكشيللي، 1993: 146)، وبهذا يصبح الوجود داخل مجتمع متناقض وجودا يقتضي المماثلة: “ربما لن تكون مضطرّاً لتقمّص الأدوار/ طبيبٌ، مهرّجٌ، أمٌّ، أو أسعد رجل في العالم/ حتماً ستتغير عاداتك” (الصقري، 2019: 11)، وتصبح المكوّنات المتناقضة شيئاً مقبولاً: “أبدأُ/ بغرفة البنت الكبرى المملوءة بالدباديب/ و”علب” الويسكي والكتب/ بمخطوطات الحبّ والألم والاكتئاب واللاجدوى” (الصقري، 2019: 24)، فكل شيء ثقافي مجتمعي قيمي يجتمع مع بعضه ليهدم بعضه بعضا، حتى يتحول الفرد إلى مجرد مهرّج: “ألستِ المهرّج الذي يجتمع في قلبه كلُّ بكاءِ العالم؟” (الصقري، 2019: 43)، المهرّج الذي يجتمع في قلبه كل بكاء العالم وخيبته وألمه: “ما الذي يؤلمك؟/ … الحيواناتُ المفترسةُ الطليقةُ./ الأغبياءُ، السذّجُ، المطيعون جدّاً،/ النظراتُ التي تخفي داخلها قفصاً مليئاً بالأسود” (الصقري، 2019: 87)، ومع أن الاحساس بالقهر الاجتماعي الصادر من السلطة السياسية ومؤسساتها يؤدي إلى مصادرة الهوية، إلا أن تلك الممارسات تصبح متحققة ومريرة حين تكون على أيدي من لا يريدون من ورائها أي مكاسب أو سلطة، فهم “المطيعون جدّا” الذين نجحت آلة القمع في تدجينهم، ثم أصبحوا أداة من ادواتها للقمع والتدجيل.

 

5/ أزمة المثقف وهويته:

 

إن الثقافة، بوصفها أداة وعي، تؤدي إلى المزيد من الشعور بأزمة الهوية لدى الفرد المثقف، تجعل من وجوده حساسية خاصّة، ما يجعله عرضة لأن يكون أعمق شعورا بالخذلان والعجز: “يشكل … المثقفون اليوم فئة اجتماعية تعاني بنفسها من أزمة الثقة بالنفس، وتعاني من صعوبة أداء دورها كاملاً، أو القيام بدور المعارضة”  (ميكشيللي، 1993: 144)، فهم يعون خطابات الإعلام: “بدلاً من أن تقضي وقتاً لتهدئة الكلاب المسعورة التي تنهشك” (الصقري، 2019: 11)، وهم يعون عجزهم، فالسلطة السياسية والاجتماعية، وإن كانت لا تحطّمهم بشكل مباشر، فإنها تحطم كل ما يحيط بهم وتزيفه وتُخضعه: “لن تقف وحدَكَ لمواجهة قطيع الثيران الغاضبة التي تهمُّ بتحطيمِ كلَّ شيء تقابله” (الصقري، 2019: 11)، حتى تصبح أفكارهم الطليعية وأطروحاتهم التنويرية مجرد عامل إضافي لشعورهم بالتهديد، ووعيهم العميق بأزمتهم كمفكرين، لا يجدون طريقة للخلاص من وعيهم: “كيف يمكنني التخلّص من سمكة قرشٍ شرسة تسبحُ داخل رأسي؟” (الصقري، 2019: 18)، فحساسيتهم عميقة تجاه القبح الذي يدمّر الجَمَال: “أتأخر عن إبلاغ الشرطة بحادثة قتل أغنية” (الصقري، 2019: 18)، متأخرون في تحقيق ما يريدون: “أتأخر عن الأحلام” (الصقري، 2019: 18)، يعون أن رياح التغيير لن تهبّ في وسط تم تزييفه بالكامل: “أبداُ/ بضجيج الفضوليين في عظامي./ بالمدن التي لا تحتضن عشّاقها في الحرب والسّلم./ بالريح المتكوّرة خلف الباب؛ خوفاً على حياتها” (الصقري، 2019: 24)، يعلمون أن الخاص تحوّل إلى ضغوط جعلتهم يحلمون بالخلاص الذاتي بدلا من الحلم بتحرير الجماعة: “أقلّب قنوات اليوتيوب، قنوات التلفزيون، الكتب، المجلّاتِ العالمية؛/ بحثاً عمّا يمكنه جلي أوقاتي المهدورة، في كنسِ القمامةِ، وتشريح أسباب تدهور الوعي والذائقة” (الصقري، 2019: 50)، ولأنهم يعون أدوارهم، وما قد تؤدي إليه من خسائر إضافية فإنهم يقاومون فعل الكتابة والفن، ويبررون ذلك: “أطوي ساقي، وأربطها بذراعي/ كل شيء يمكنه أن يخدش روحي/ كل شيء يمكنه أن يكون سبباً في قتلي” (الصقري، 2019: 51)، فكان أن أقروا بصعوبة التغيير: “كنتُ في كل الأحوال شاهداً صامتاً، يسجّل ما يرى في دفتر روحه/ لم أمدّ يدي/ لم أفتح فمي” (الصقري، 2019: 57)، مكتفين بشغفهم الخاص، ففي تعريف الشاعرة للشغف، نجد: “صديقي الذي أطلبُ منه، دائماً، أن يتزوّج حياتي” (الصقري، 2019: 76)، ليتزوج حياتها بالكامل، لتنصرف إلى شغفها الخاص هربا من العام: “من الأفضل عدم المخاطرة بأحذيتك الجديدة،/ وأن توقف، على الفور، تصدير حنانِك وإنفاق ضوء روحك لجهاتٍ مجهولة” (الصقري، 2019: 95)، فلا شيء يستحق أن تنفق عليه ضوء روحك، ففي النهاية ستكون وحدك: “هل تبدو مثيراً للشّفقة؟/ وأنتَ خارج الحلبة،/ تنظّفُ جُرحاً قديماً في صوتك” (الصقري، 2019: 101)، بلا صوت، وبلا تفردية، لا تفردية لك، ولا لمن تريد خلاصهم، فالمثقف العربي مشروع معرّض، وبشكل دائم، للاستغلال والتوظيف في خدمة أهداف قد لا يعيها، وهو إن قاوم فإنه معرّضٌ للتنكيل: “هل تبدو مشروعاً فاشلاً معرضاً للنّهش؟” (الصقري، 2019: 101).

 

أزمة هوية الفرد في أزمنة الاستلاب:

 

القارئ الضمني في مجموعة “القفز في المنتصف” يتحول بسهولة من الأنا إلى الآخر، في نفس الفقرة الشعرية: “أشياء تسحبني للأعلى،/ … عيون تمثالك الفولاذي” (الصقري، 2019: 9)، وفي ذات السطر: “ربما لن تكون مضطرّاً لتقمّص الأدوار/ طبيبٌ، مهرّجٌ، أمٌّ، أو أسعد رجل في العالم/ حتماً ستتغير عاداتك” (الصقري، 2019: 11)، أنا وأنتَ وهو وهي، وجميعها تشير إلى المفرد، الواحد في مقابل المجموع؛ الآخرين: “والآخرون هم الجحيم” (الصقري، 2019: 28)، هذا الوجود المكثّف الذي يخلق فراغات شاسعة لإعادة كتابة النص، لأنها فجوات تهدف إلى أن يشارك الآخر؛ الفرد في بناء المعنى، لأن الثغرات التي تبرز من النص هي ما يحث القارئ على ملء الفراغات بالانعكاسات، و: “تشتغل كمحفز أساسي على التواصل. وبطريقة مشابهة فإن الفراغات هي التي تُحدث التواصل في عملية القراءة” (أيزر، 1987: 98).

 

وهي من خلال ديوان الصّقري، في المحصّلة النهائية، لا تخرج عن تقرير حقيقة ما يخسره الفرد بفردانيته مقابل جماعة قائمة على فكرة الاستلاب، استلاب الحرية والفردية والمساحة الخاصة، ما يدفع الفرد لبناء خططه الخاصة للانعتاق: “خططي المقبلة/ وفكرة إعادة تصوير حديقة مكتئبة،/ ببيجامة النّوم تعدّ الشايَ في مطبخٍ غير مرتّب/ لا تفتحُ النافذةَ، ولا تسمعُ العصافيرَ/ تميلُ إلى الألوان الداكنة/ وتنسى أفكارَ الحبِّ مبعثرةً في صالة الجلوس” (الصقري، 2019: 63)، الخطط التي تجعل من الفرد كائناً يتحوّل من الفرد المتنوع في داخله إلى سياق يتماهى مع الجماعة، ويحاول مجاراتهم: “أركض، وأشاركُ في الماراثونات دون قصد،/ لكنني أتوقف كثيراً،/ أتوقف؛/ لأنظّف الأرضيَّة والشبابيك، ولأغيّر الستائر/ أتوقفُ؛/ لأشتري علبَ هواءٍ جديدة من دكاكين شبه منسيّة؛/ أنزع الدبابيسَ العالقة في حذائي/ أتوقفُ؛ لأنني أنسى فجأةً كلَّ شيء،/ كمن سقطتْ على رأسه حديقةٌ كاملةٌ من الأغاني” (الصقري، 2019: 71)، عمليات توقف متكررة، حتى إن إحداها تكون أمام دكاكين منسيّة، لم تعد مطروقة، لا يؤمها أحد ولا يذهب إليها، لأنها تبيع هواءً جديداً، الهواء الذي لا يُراد له أن يكون متاحاً في وسط يؤمن بأهمية الركض مع المجموع بلا توقف.

 

كل محاولات التماهي ستفشل، لأن الفرد مجموعة من القيم والمعارف والخبرات الخاصة، غابة من الاختلاف، يتم توظيف اختلافها في المجتمعات الإنسانية من أجل الإثراء، لكن المجتمعات القمعية لا تفهم هذه الحقيقة، بل تنظر إليها بريبة: “أنا غابةٌ كاملةٌ من الأزهار والأشجار، الآن/ يحتلّني/ فَراش حشيشة الحجر المرقّع، وفَراش السيدة الملونة/ هذه ليست معجزة،/ هذا قلبٌ/ مجنونٌ يقرأ على الملأ مرادفاتِ الهيام” (الصقري، 2019: 72)، وهو القلب الذي سيتحول إلى ممارسة محبة يستطيع فهمها والسيطرة عليه: “هذا بالضبط ما سيجعل مشية الحياة منتظمة/ الوقوع في حبّ لعبة،/ لعبة ساحرة جذّابة، تسرق الوقتَ، وتحوّل اللحظات إلى حفلاتٍ راقصةٍ،/ والأيام إلى منصّاتٍ لعرض الأزياء” (الصقري، 2019: 81)، ولأن منصات عرض الأزياء، في المجتمعات المغلقة والمفتونة بنقائها تتحول من متعة إلى ممارسات قمعية، كان لا بد من قول شيء عن المكاسب التي ستحدث للفرد إذا تنازل عن هويته: “لأقول شيئاً للذين ينتظرونني في الخارج؛/ لأقول شيئاً عن الحياة،/ … عن متعة الانفصال والتخلّي،/ عن متعة التبديل اليومي للوجوه،/ أن لا تعرف من أنتَ، اليومَ، ومن ستكون غداً؟” (الصقري، 2019: 82)، ثم لتقرر حقيقة ما تريده، حين تخاطب مخترع تطبيق “سناب شات”: “هذا ما أريده، يا إيفان شبيغل،/ طريقةٌ جديدةٌ للكلام،/ طريقة جديدة للقفز في المنتصف مثل كلمةٍ زائدةٍ في جملة،/ طريقةٌ للتخلّص من القمامة،/ طريقةٌ جديدة لإعادة إنارة معطّلة، في شارع الغيرة المزدحم بنساءٍ عاطلاتٍ عن الحياة./ طريقة جديدة لتعبئة دماغ الوقت بفضائل اللهو والموسيقى،/ طريقة جديدة لعبور خطّ النّار، والخروج بجسد كامل إلى الجانب الآخر” (الصقري، 2019: 83)، هذه الإرادة الجديدة مبررة، وهي أسلوب ضروري للنجاة: “عملية نزع الأفكار، واقتلاعها من رأسك./ تتطلب جهداً إضافيا،/… ينبغي عليك فعل ذلك، بدلا من الصراخ، أو طلب النّجدة،/ عليك إشغال نفسك./ ومن الضروري فعل ذلك؛/ لكي تنجو من التهشّم الكامل،/ عليك أن تتأمّل كل فكرة قبل اتلافها” (الصقري، 2019: 93).

 

لكن أزمة الفرد في أزمنة المدن، وخاصة المدن التي يسكنها جماعات لا تعترف بالتفرد، ولا تحب الصوت الخاص، ولا تؤمن بالاختلاف، تكون أزمة تمثل صراعاً أبدياً لا يتوقّف، وهو الصراع الذي يخسر فيه الفرد دائماً، لأنه لا يعرف طريقة تشغيل مصانع الكذب، ولا يفقه شيئاً في إدارة الغابة، تلك التي يأكل القوي فيها الضعيف، ولا تخضع إلا إلى عُرف الاعتساف وابتلاع الآخر: “الحلبة للأقوياء الذين يمكنهم الصراخ في أي وقت،/ الذين يملكون مكاناً، ومساحة لإدارة مصنع الكذب، والأخطاء الكبيرة،/ الذين يعرفون كيف تُدار الغابة، ومتى يكون اليسار هو اليمين، واليمينُ هو اليسار” (الصقري، 2019: 99).

 

 

هذه هي مجموعة “القفز في المنتصف” لفتحية الصَّقري، بلغتها الكثيفة، وخطاباتها المتداخل حول الفرد: الأنا والآخر، هو وهي، في مواجهة الجماعة ممثلة في الآخرين، من يظن أن المواطنة الصالحة ما هي إلا انخراط في الجماعة على حساب الصوت الخاص، وذوبان على حساب الوجود الخاص، واقتحام للمساحات الخاصة، وإدارة للشأن العام بدون التفاتة لحقيقة الفرد وماهيته، وحقيقة أنه هو أيضاً غابةٌ من الاختلاف البنّاء والإنساني الذي يمكن توظيفه للصالح العام، دون دهسه، والاعتراف بفرديته بدل اعتسافه ومصادرة هويته: “”أنا غابةٌ كاملةٌ من الأزهار والأشجار، الآن/ يحتلّني/ فراش حشيشة الحجر المرقّع، وفراش السيدة الملونة/ هذه ليست معجزة،/ هذا قلبٌ/ مجنونٌ يقرأ على الملأ مرادفاتِ الهيام” (الصقري، 2019: 72).


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم

ليستْ كلُّ الأشياءِ مسلّية