إلى أين نمضي؟




بدا الأمرُ، كما لو أني أتجوَّلُ في مزرعة ضخمة، قُطعتْ عنها المياه، منذ أشهر؛ لتأخُّر أصحابها عن سداد الفواتير، الشمسُ وحدَها على ما يبدو ظلَّت تشرق وتغيب، بفتور ومشقَّة، مثل عامل نظافة في مصنع للمبيدات الحشرية، لا أثرَ لشيء هنا سوى لقشورٍ لُبِّ عبَّاد الشمس المتكدِّسة على الحوافّ، لفحة الهواء الساخن المُحَمَّل بالغبار تضرب وجهي، من كلِّ اتجاه، السماء غيرُ مكترثة مغطَّاة بطبقات ضبابية رقيقة، تتجمَّع وتذوب في بعضها، أحوال الطقس تتنبَّأ بمنخفضاتٍ 
جوية لا تأتي

إلى أين نمضي؟ لا أعرف، وما الذي علينا فعْلُه؟ لا 
أعرف، أتردَّد بين  (تاريخ الجنون) لميشيل فوكو،  و(سفينة الحمقى) لسباستيان برانت، و(عالم الصمت) لماكس بيكارد،  أن تكون بعيدا وصامتا لا يكفي لتشعر أنك سعيد، ولا تشكو   من شيء، لا تستطيع أن تغلق فمك، أو أن تمنع أصابعك من النقر على الكيبورد، للاعتراف بأن هناك شيئا ما  يحفر في أعماقك، يصفعك، ويطعن باطن قدميك، كلما 
حاولتَ المشي

آلافُ المدن تنهض من موتها في نومي، آلاف القضايا تنفتَّح ملفَّاتُها على طاولتي، ولا تنغلق،
وجوه كثيرة تعبُر أمامي، يخيَّل لي أنها طيورٌ بيضاء، أو فراشات ملوَّنة، للوهلة الأولى، لكن عندما أعود إليها مرَّة أخرى، أرى شيئا آخر، شيئا مخيفًا، يجعلني أُغمِض عينيَّ، أغيِّر موقعي، شيئا يجعلني أهرب بأقصى ما أستطيع باتجاهٍ آخر، لكنها لا تكفُّ عن ملاحقتي بطريقة غير مفهومة، تحفظ اسمي جيدا، كأنني هدفٌ وحيد لخطَّة مُريعة.

  الدخول إلى عالم مليء بالصُّراخ، وتكتيكات الحروب الباردة، ليس أمرا سهلا على الإطلاق، الخيار الصائب الذي أتَّخذه في كلِّ مرَّة، ليس سوى التراجُع، التراجع خطوةً إلى الوراء.
   يوما بعد يوم، يصبح كلُّ شيء واضحا صريحا ومفهوما، يوما بعد يوم، يصبح كلُّ شيء جارحا ومؤلما، الوجوه، الكلام الصمت الأقنعة الكثيرة المتساقطة، أحوال الحبّ، أخبار القلوب، أخبار الحياة الناس والعالم ،  يوما بعد يوم نكتشفُ أننا لم  نعد نملك قدرةً كافية على التجاهل ،على تقديم دور الجبل الجليدي الصُّلْب،  يوما بعد يوم تتضاءل أحلامُنا، تصبح المقاومة أمرًا مرهقًا، يستنزف من الوقت والطاقة ما يكفي عُمرًا كاملاً، وأقلُّ ما يمكننا فعلُه مع  تداعيات كهذه، هو حماية أنفسنا من الأذى بكافَّة أنواعه، ذلك الأذى المضاعَف الذي يجعل المرءَ ذابلا وخاملا، غير قادر على الحركة، ذلك الأذى الواثق من قدرته على القتل، بطرق سيِّئة، أغلبَ الأحيان


يوما بعد يوم، تتضاءل حدَّةُ المواجهة بيننا وبين المجهول، بيننا وبين هذه الانفجارات اليومية لواقعٍ لا أملَ بشفائه، بيننا وبين هذه المعارك الكبرى الطاحنة التي تُخلِّفُ وراءَها أعدادا هائلة من الحمير و الكلاب المسعورة، بيننا وبين هذا الالتباس العظيم بين الخير والشرّ، الصالح والطالح، السيِّء والجيِّد ، يوما بعد يوم، يصبح قرارُ الانسحابِ أكثرَ نُبْلا من الانغماس في سباقٍ وحشيِّ ملوَّثٍ بالظلم والجشع والأنانية، متجرِّدٍ من الإنسانية والأخلاق، وكلُّ ما يحدث لنا في هذه التجربة الحياتية المُريعة، يصبح سببًا لتحوُّلاتنا السريعة، لهروبنا الدائم  بأقصى ما نستطيع إلى مكانٍ آمِن، يسمح لنا بالمشي والكلام، بلا خوفٍ أو تردُّد، أو توجيهاتٍ مسبَقة، أو نظام محدَّدٍ،  إلى مكانٍ يسمح لنا أن نسافر بحريَّةٍ إلى أعماق النفس البشرية، يسمح لنا بقول ما نريد قولَه، بلغةِ حياةٍ بسيطة مفهومة، غير مختلَقة، وغيرِ معقَّدة.


https://www.almayadeen.net/articles/author/%D9%81%D8%AA%D8%AD%D9%8A%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%82%D8%B1%D9%8A/ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوار الذي أجراه معي الشاعر صالح العامري في برنامج (في هواء الكتابة )

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم