بحر وعشب ودراجة هوائية





أوقاتي ممتلئة، في الغالب، وسفري دائم، لا أشعر كثيرًا بالملل، التفاصيل الصغيرة في اليومي والمَعِيش تعذِّب هشاشتي، وتهذِّبها، تعيد لنفسي شيئًا مفقودًا، أو غائبًا، أدخلُ كلَّ يوم، رحلةً جديدة، تبدأ عبْرَ حواسِّي وروحي، وتتوقَّف كاستراحة؛ لفلترة الأشياء، قبل هبوط الليل، هناك ما يبقى، وهناك ما يذهب، ويختفي، ويتماهى أحيانًا، مثل قطرة في محيط، أُدوِّنُ على ورقة جانبية: أنا كائنٌ لا يصلح لمظاهر الحياة الاعتيادية. أعيش داخل حلم، وخارج هذا الحلم لا أوجد. بيني وبين الآخرين جدارٌ من الخوف، وأبوابٌ بأرقام سرِّية، لم تقاطعني يومًا فكرةُ السفر إلى بلد آخر، بالطائرة، لأسبابٍ كثيرة، سخيفة أحيانًا، وغير منطقية، أحيانًا أخرى، لكن ما الذي حدث؟ لا أعرف حتى هذه اللحظة، لا أعرف كيف ذهبتُ، ولا كيف عدت. الأمر كان أشبه بترجمة حلم؛ إذ وجدتُني في إحدى الليالي بين جدارين في ممرٍّ ضيِّق، قليل الإضاءة، بجناحين أبيضين، أرتفعُ تدريجيًّا عن الأرض. بعدها بفترة قصيرة، قررتُ فجأة حجْزَ تذكرةٍ للسفر، وبدأت بتجهيز حقيبة سفري، وكعادة مرضى الارتباط العاطفي، بأصغر الأشياء التي يتعاملون معها، يوميًّا، ملأتُ حقائبي بكلِّ صغيرة وكبيرة؛ بالأشياء التي أحتاجها فعلًا، وبالأشياء التي ربما سأحتاجها. حجزتُ تذكرة الذهاب فقط.  لم أحدِّد وقتًا. قلتُ لأقصر مدَّة ممكنة، أو لأطول مدَّة ممكنة، لم تكن سوى أمنيات صغيرة، تتقافز في قلبي؛ من فرط خفَّتها؛ المشي الطويل برفقة أغنية، الرقص بدوران خفيفٍ أمام البحر، مدفوعةً بضحكة تهوي بالقرب منِّي، أجرِّبُ متعة ارتداء الملابس الشتوية، أستمع لقصص وأحاديث دافئة، بفائضٍ من الشَّوْق، وأنا مستلقيةٌ على العشب، أتوسَّد بطمأنينة أحلام روحٍ تشبهني؛ السَّيْرُ بدرَّاجة هوائية في الشوارع المزدحمة، أو تحت المطر الغزير، ببهجة الهارب من غضب الشمس الدائم، إلى هدوئها الذي ينوِّم مخاوفها، بأحلام قصيرة تشبه البرد الخفيف والمطر الذي  ينهمر بلطفٍ، وقت الظهيرة، قضيتُ أكثر من نصف اليوم بين مطارين وطائرتين، كنتُ وحيدةً تمامًا، كنتُ شبه ضائعة، أتفقَّد الأماكن الجديدة، كمَن لا يعرف إلى أين يتجه. تحدث أشياء غير متوقَّعة، كالتغيير المفاجئ لصالة الانتظار، كالأشياء التي لا يُسمَح بإدخالها الطائرة.  سألتُ امرأةً تجلس بجواري، أشارت لي أنها لا تعرف؛ فسألت شابًّا يجلس على الجانب الآخر، عن شيء ما، لكنه لا يتحدَّث الإنجليزية كان مستعدًّا لمساعدتي يجيبني بالإشارات، ولم يتركني للحظة، ساعدني في كلِّ شيء، حتى موعد رحلته، كان شابًّا في غاية الجمال واللطف، شعرتُ كأنني قريبتُه، أو صديقته؛ من فرط اللطافة التي غمرني بها.
كنتُ أشعر بتعبٍ وصداع؛ لطول الرحلة، وتأخُّري في تناول الشاي الذي افتتح عادةً به يومي، وصلت للوجهة المحدَّدة بعد 13ساعة بين استعداد وانتظار وطيران. كانت تنتابني مشاعرُ متناقضة؛ بين فرحٍ وقلق، أسأل نفسي: هل أنا حقًا خارج عُمان؟ متفاجئة وخائفة، والأشياء لا تساعدني؛ لتخطِّي اللحظة العجائبية الممتزجة بالشروق والغروب، في آنٍ واحد، كان موقع الفندق هادئًا، والبلدة التي قصدتُها أيضًا صغيرة، وتتسم بالهدوء والجمال والبساطة، ليست باردة جدًّا، وليست دافئة، لكن كلّ ما يحتاجه الإنسان سيجده هنا، كلُّ شيء متقارب ومتلاصق؛ الحانات والمساجد البحر والأشجار،  الأسواق والمطاعم في كلِّ مكان، يمكنني المشي فقط، لن أحتاج لسيارة. التقيتُ في طريقي إلى قلب البلدة بسيِّدة أجنبية جميلة، كانت دليلي للأماكن التي لم أزرها، تسوَّقنا وتجوَّلنا معًا، ثم افترقنا، لكن فاجأني أنها لأوَّل مرَّة تسمع عن دولةٍ عربية اسمُها عُمان.
أخرجُ يوميًّا للمشي، وأحيانًا أجلسُ في استراحة الفندق الخارجية، متأمِّلةً المطر الغزير الذي لا تقاطعة العواصف، متصلًا بكلِّ الأشياء، برهافة، مثل من يغرق في مشهد رومانسي.
الهدوء بدأ يعمُّ المكان، الساعة تشير إلى العاشرة مساءً، وأنا ما زلت على طاولتي، أتابع فيلمًا على الهاتف، كنت أمسح دموعي بسرعة، قبل أن يلاحظني أحد، لكنَّ ثمَّة رجلًا يجلس وحيدًا أيضًا، على الجانب الآخر يفصل بيننا ممرٌّ للمشاة، تلاقت أعينُنا غيرَ مرَّة، كأنه يريد أن يقول شيئًا، أدرتُ رأسي، وانشغلت بالنظر إلى البحيرة، على الجانب الآخر، بعد مُضيِّ دقائق، استدرتُ؛ لأتناول كأسًا آخر، ثم لمحته قادمًا باتجاهي، لكن لا تزال تلك النظرات متَّجهةً نحوي، بحنانٍ بالغ، كمَن يريد أن يقول: هل تحتاجين مساعدة؟ أو كمن يريد أن يحتضنني لمواساتي.
النادل أيضًا، بين الحين والآخر، يأتي، ويسألني: هل يمكنني مساعدتك؟ حتى في جلسته مع أصدقائه؛ لتناوُل العشاء على إحدى الطاولات القريبة منِّي، كانت نظراتنا تتلاقى، كمن يريد أن يطمئن، وأشير له، شكرًا لك، أنا بخير.
بينما كنتُ أعيش حالةَ صمتٍ وتأمُّل، وبعينين مليئتين بالدموع، قفز كلبٌ ودود إلى مقعدي، يتشعلق بي، ويلاعبني، كان أمرًا مفاجئًا وسعيدًا، ابتسما فرِحين؛ الرجل الغريب والنادل.
شغلني الهجومُ اللطيف والمباغت عن الخوف، نسيتُ كلَّ شيء، كمَن وُلِد للتوِّ في مكانٍ جديدٍ لا يعرفه.
كنت أفكر بتغيير  الفندق والذهاب إلى مكان آخر كعادة غير المستقر بمن يرغب باستمرار بتغيير الأماكن والوجوه كانت مشاعري ملتبسة ما الذي يحدث بالضبط ؟
لم أغير المكان حجزت تذكرة العودة قبل نهاية الأسبوع
توجهت للمطار بسيارة أجرة لم أشعر بالوقت كان السائق لطيفًا أيضًا يتحدث كما لو كان مع صديقه أو ابنته وصلت المطار و في نقطة التفتيش استقبلني الموظف بابتسامة و أشار إلي  بخلع المعطف ثم نظر آلى الحزام ثم قال لا بأس تفضلي وأشار لي بالدخول
في نقطة التفتيش الثانية طلبت مني الموظفة أن أخلع الحزام ترددت رمقتني بنظرة حادة وصرخت (اخلعي الحزام)
نقاط التفتيش مخيفة عليك أن تمتثل للأوامر إخلع ولا تبدي أي ردة فعل  (المعطف. الحقيبة الحذاء السماعات ، والحزام اخيرا)
عند،تسليم الحقائب لم أستطع رفع الحقيبة ووضعها في مسار الحقائب فقفز الموظف من مكانه ليحملها عني.
جلست في صالة الانتظار إلى جانبي شاب لطيف تبادلنا النظرات وبدأنا بالحديث حول الرحلة واشياء أخرى عن طريق تطبيقات الترجمة إلى أن حان موعد الرحلة للانتقال إلى مطار آخر تأخرت عن الموعد المحدد كنت أركض كمن يخوض سباقًا التقيت بوجوه مبتسمة وأخرى متجهمة طوال هذه الرحلة القصيرة ذهابًا وإيابًا تأخرت الطائرة عن الإقلاع قرابة الساعتين  بسبب مشاجرة لا أعرف تفاصيلها ما أعرفه أني حاولت النوم في المقعد الطويل الفارغ
وصلت مسقط بحدود الساعة الواحدة بعد منتصف الليل هل حقًا وصلت ؟أم بقيت هناك؟ مزروعة مثل شجرة مطلة على   البحر بانتباهي العائم ودهشتي التي لن تنطفئ أبدًا.

 النص ضمن حلقة برنامج  في هواء الكتابة تقديم الشاعر صالح العامري

يمكن سماع النص عبر تطبيق عين ولتحميله على الروابط التالية:

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوار الذي أجراه معي الشاعر صالح العامري في برنامج (في هواء الكتابة )

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم