لا شيءَ غيرَ أثرٍ مُداسٍ بأقدامِ الرُّعاة






قد يكون البحثُ عن الوسائل والطرق الحديثة التي تواكب نموَّ العالم السريع، في شتَّى المجالات، أمرًا سهلا، لكن تطبيق ذلك على الواقع قد يبدو صعبا للغاية، مالم يقع تحت إشرافٍ مباشر، ومتابعةٍ دقيقة من إدارة قوية تسعى للتغيير والتجديد والتطوير في بيئات العمل، واختيارٍ الموارد البشرية المناسبة، لكن ذلك يبدو أشبه بمعجزة في ظلِّ وجود مؤسَّسات لا تزال، إلى الآن، تعيش على نظامها التقليدي البائس، البعيد عن العالم العملي المتطوِّر، ولا تَصدُر منها أيُّ إشارةٍ من قريب أو بعيد، على النهوض بمستويات الإنتاج والتقدُّم والأداء الوظيفي؛ لأنها محتلَّة- على ما يبدو- من إدارات بيروقراطية، وكوادر تسير بالريموت كونترول، بنظام مسيطِر متحكِّم في كلِّ شيء، ببلادة، بأنا مرتفعة زائفة وفارغة تنظر للأعلى، ولن تعرف أبدا  أن الحياة الحقيقية تنبض في الأسفل، بكلِّ مكوِّناتها الطبيعية والغالية والمثرية، بيروقراطية تكرِّس فكرة الروتين القاتل، المستمِد لقوَّته وجبروته من غياب الرقابة والمتابعة الحقيقية، ذلك الروتين الباعث على الإحباط والكسل، بشكل أوتوماتيكي متواصل، والذي يسحق القدرات والإمكانات، ويقتل الشغف والرغبة، ولا يترك خلفَه سوى مجموعةٍ من الدُّمى المتحرِّكة المصفوفة بعشوائية في غرف ضيقة ومحاصَرة، في أغلب الأحيان بالجواسيس واللصوص، وبائعي الضحكات المخادعة، دُمى متساوية، لديها من البلادة ما يكفي لتمضي في يومها، ببطءٍ شديد، منتظرة نهاية الدوام الرسمي بفارغ الصبر، لتغادر ساعات قليلة، ثم تصحو بعدها على كابوس العودة لمكان ملوَّثٍ مشحونٍ بالطاقات السلبية، ومليء بالمعاقين والمرضى. أحيانا تعتقد أنك دخلتَ خطأ إلى دارٍ للمسنِّين، أو مجلس عام في قرية ريفية، وأحيانًا يتبادر إلى ذهنك أنك دخلتَ وكْرَ عُصابات مسلَّحة، أو وقعتَ أسيرًا لدى مجموعةٍ إرهابية بدائية، تؤمن بمعتقداتِ أسلافها غير القابلة للنقاش أو التفاوض، وأحيانا كثيرة تعتقد أن المكان الذي وصلتَ إليه ما هو إلا مدرسةٌ ابتدائية، طلابُها جمعيهم تلميذٌ واحد يؤدِّي النشيدَ الوطني، ثم يجلس لثماني حصصٍ متتالية، يحفظ الدرس جيدا، مُطأطِئَ الرأسِ، يردِّد الأناشيد والقصص البالية، بانتظام ،مسلوب الإرادة، لا يستطيع أن يرفع يدَه ليَهُشَّ ذبابةً حطَّتْ على أنفه. لن تنجز شيئًا ذا قيمة على الأرجح؛ لأنك لن تعرف بأيِّ حال متى تخرج الأفاعي من أوكارها، تتلَّفتُ، طوالَ الوقت، مشغولًا بإمكانية حدوثِ أيِّ هجوم مباغت في أيِّ لحظة، تخرج وتدخل بعينين زائغتين وفكر مشتَّت.
 عقلياتٌ بائسة وشهادات لا تَمنحُ أصحابَها غيرَ اللقب والمنصب، كيف ستُحدِثُ تغييرًا وَفْقَ متطلَّبات الواقع الراهن والمستقبل، والكادر البشري، والإنتاج الفعلي آخر اهتماماتها؟ العقليات التي تستحوذ عليها أَيْدُيُولُوجْيَا متأخِّرة عن العالم، لن تسمح لأيِّ تجربة، أو محاولة لمواكبة الشغف، والعمل بجِديَّة وخلق مسارات جديدة، بالمرور، أو بالمشاركة، العقليات المشغولة دائما ببناء صوتها، وتربيته على عدم الالتفات، لن تكتشف صوتا آخر، ستعْبُرُ الأصواتُ الكثيرة من أمامها، ومن خلفها،  بلا آذانٍ تَسمع، وبلا أيدٍ تلتقطُ، ستعبر مع الريح التي تهبُّ، وتنتشر في ربوع الساحات الصحراوية البعيدة، لتمتزج مع الرمل، وتصبح لا شيء، لا شيء البتَّة، غيرَ أثرٍ مُداسٍ بأقدامِ الرُّعاة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم

ليستْ كلُّ الأشياءِ مسلّية