إصغاء شعري داخلي لمواجيد الذات وأسئلتها


GMT 6:57 2016 الخميس 11 أغسطسGMT 6:59 2016 الخميس 11 أغسطس :آخر تحديث

فتحية الصقري وأعيادها السرية: إصغاء شعري داخلي لمواجيد الذات وأسئلتها

عبدالله السمطي 
جريدة إيلاف 






شعريًّا، يؤولُ الموضوع الحسي الواقعي إلى مآلات ذاتية تنقب عن المطمور والخفي، شعريا يتحول الواقع إلى عالم آخر، إلى افتراض جمالي تنهض فيه اللغة بعبء هذا التحويل، وهو عبء مفرط في تخييله وفي استقصاءاته، ذلك لأن الشعر لا يتوقف عن تحمل أعباء الجمال، وإذا كانت اللغة أداته الجوهرية فإن هذا الجمال يتم تقديمه بشكل مختلف عن السياق حتى يتميز، وبشكل فيه من الجدة والتلقائية معا يصله بالقارئ وحواسه وأشواقه  في ديوانها :" أعيادي السرية" ( دار مسعى، البحرين) تقدم الشاعرة  العُمانية فتحية الصقري تجربتها الشعرية الثالثة بعد " نجمة للظل" (2011) و" قلب لا يصلح للحرب" (2014) وهي تجربة تتسم بالبحث الدائم عن يقين الذات في عصر متقلب ، مفارق، لم تعد اللحظة تبوح فيه بأسرارها، بل أصبحت لحظة مقنّعة في حركتها وجموحها. في هذا الديوان تنتصر فتحية الصقري لللأنا بشكل كبير، لكنها أنا مشبعة بتناقضاتها وحالاتها التجريبية اللاقطة، هي أنا وصّافة بلا شك، تطل على الأشياء من مساحات دهشتها وواقعيتها في الآن نفسه، وهي أنا متناقضة تنقل هذا التناقض وتتضامن معه لا نكرانا لهوية ما، أو نكرانا لذاتها المتآلفة مع أعيادها السرية، ولكن لتوصيف حالتها الشعرية التي ترصد واقعا راكضا تتبدل فيه القيم ويتغير فيه الجوهر الإنساني.  يتشكل الديوان من (29) نصا وبدءا من النص الأول الذي يحمل عنوان:" فوهة تريد أن تقول شيئا" تقلنا فتحية الصقري إلى أجوائها الشعرية المفارقة: لا لا هذه ليست أوراقا  ليست قصاصات قديمة منسية في عتمة درج داخل خزانة الروح هذه فوهة فوهة تريد أن تقول شيئا قصة طويلة مثلا عن العدم العاري عن قبضة محكمة طويلة الأجل عن أمل متقاعد عن حياة مهترئة ، كتب روح، كتب جسد، فراشة مربوطة بحجر / ص 11 هي توصيفات متتابعة من أجل تعريف هذه الفوهة / الكتابة التي تريد أن تشكل عالمها الصغير، في حياة مهترئة لا تقود لشيء جوهري. هي حالة أنا منكسرة تتشظى في الأشياء المتشظية أصلا، ولا تخلف مشهدا متماسكا قدر ما تنتج مشهدا مسريلا تصبح فيه الأشياء أكثر نرجسية وأنانية وفرادة، حتى إن الشاعرة ترسم لنا مشهدا فسيفسائيا لفظيا لا علاقة فيه بين لفظة وأخرى ، اللفظة وحدها هي التي تشع وتشكل سياقها الخاص المستقل: الصور المعلقة على رقبة حياتك مسلسل ممنوع من العرض لكنه يتداول: حلم/ أقدام/ مطارق/ ليل/ تراب/ قلق /عصا/ صراخ سجن/ تلصص/ إجبار/ نار / تحرش انتحار / موت/ مرض/ سرير/ لا / إرهاب/ عيب  حرمان/ سحر/ جن/ بخور/ لحى – ص16  هنا كل لفظة تأخذ سياقها وحدها، لا علاقات فيما بينها غير حضورها في هذا التكوين الفسيفسائي، وعلى الرغم من أن هذه البنية الوصفية ماثلة بشكل كبير في شعرية قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر على حد سواء، إلا أن الشاعرة تعيد استثمارها في الديوان لبيان هذا الهاجس القلق المتسائل الذي تبديه في معظم النصوص، معبرة عن حالة من الألم والضجر، بل إن الألم عندها حالة من حالات الكشف كما تصور:" أواصل تقليب قلبي في مرجل الاكتشاف.. في مرجل الألم" / ص 14 وإذا كان قلق الأنا، وانكسارها يحيط بهذه الأجواء والأشياء، فإنه يحفزها على توصيف اسمها نفسه بحالة فقد، وبحالة ألم متسائل : لكن هذا الاسم المكتوب أعلى كل صفحة هذه الصرخة اللا إرادية لخمسة أحرف ف ت ح ي ة  لماذا تطلق عليّ عشوائيا ودون تروّ  كلاب الأسئلة واللا نسيان ؟! / ص 17    دلالات الصمت تبث الشاعرة كثيرة من دلالات الصمت في نصوصها. الصمت عندها كلام آخر، من دون لغة ومن دون حروف. هو كلام متأمل ومتألم معا، لكنه يعبر عن أعيادها السرية الداخلية .  إن تعبيرات منتشرة بالنصوص مثل: أغنية صامتة في مأتم دائم النشاط/ سمحت للذئاب بتمزيق ثياب صمتي/ المناطيد اللا مرئية تتحرش بصمتي/ الحشد الصامت الملتف حول العلبة/ سيصمت هذا الألم المتغطرس إلى الأبد/ الصمت الزجاجة التي انكسرت/ قنص طيور الصمت/ دمية صامتة مغمضة العينين ... إلخ حيث تتكرر دلالات الصمت في الديوان معبرة عن هذا الإصغاء الشعري الداخلي الكامن بمواجيد الذات، وهواجسها، وأسئلتها. في مقابل صوت وصخب الخارج وعوائه.  لغة الصمت هنا رغم أنها تحاصر الذات، عن ممارسة إيناسها مع العالم، إلا أنها في الوقت نفسه لغة كشف، ولغة ثورة داخلية قد تذيب الأنا وتصهرها من أجل بعثها من جديد ولو على المستوى الشعري.  وإلى جوار هذا الصمت الكثيف تأتي لغة التناقض، أعني تحريك الأنا عبر تناقضاتها سعيا للوصول إلى كنه ما أو جوهر ما، حيث تعبر الشاعرة في نص :" لم أحدد لوني المفضل بعد" : الغائبة / الحاضرة – المسافرة/ المقيمة – المضيئة/ المنطفئة – الحزينة / السعيدة .. أنا ، إلى نهايات النص حيث تتوازى التناقضات وتتكاثر حضورا وغيابا.  صحراء السؤال: حين تكون الأنا هي مسقط رأس الكلمات، ومصدر توتراتها الشعرية المفارقة، ومصدر صخبها وصمتها معا، تطل الكثير من الهواجس والأسئلة، والكثير من معايشة الربكة المتناقضة جنبا إلى جنب مع التأمل والبحث عن يقين.  الشاعرة فتحية الصقري تنقل هذه الربكة المتناقضة على مدار نصوص ديوانها عبر هذا الوعي المفرط في أسئلته. ولو أحصينا كمية الأسئلة الواردة بالديوان سنقع على يقين ماثل وحيوي بأن الأنا تواجه هذا الحصار مواجهة شديدة المراس. هي أنا غير مستسلمة على الرغم من القيود، وعلى الرغم من الفقد وافتقاد المثل حتى في الرموز الكبيرة.، وعلى الرغم من احتفائها بأعيادها السرية التي تنقلها في نص بعنوان:" أعيادي السرية" تعبر فيه عن فرح السجين وهو في سجنه بحريته الداخلية، بتذكراته، وغربته، وتخيلاته، وأحلامه.   تعبر الشاعرة عن الوجوه وتسائلها، وتعبر عن قضايا الواقع وتسائله، تبحث في كون ما غير الكون المـألوف وتسائله. هكذا تنصر نصوصها إلى حالة مساءلة دائمة، كأنها تلمس عري الذات بأصابع نزقة كما تعبر، وهنا يصبح السؤال الدائم هو الملاذ: ماذا تريد أيها الخوف ؟ ماذا تريد؟ لن أتوقف عن السؤال عن مدّ يدي عن النظر في الريح عن انتظار الشمس .. عن الضحك المزيف/ ص 44 ويظل البحث المتسائل مشمولا بدلالات كثيرة حول الواقع، والحرب، والعالم، والنوافذ التي تطل على الخراب مهيمنا لآخر صفحة من الديوان حيث نهاية أطول نص بالديوان المعنون ب:" تحت كل حجر وردة بيضاء" ، حيث تعبر: من أين ستحصلين على طمأنينة طازجة؟ بعد كل هذا الركض اللا مجدي في صحراء السؤال؟ / ص 140  وقد استثمرت الشاعرة في رصد أناها وتحولاتها، وتناقضاتها ومفارقاتها جملة من الآليات الأسلوبية التي تشكل سياقات النصوص ومستوياتها التعبيرية، تتمثل في : التركيز على دلالات محددة لإبداع المشهد الشعري كدالة:" الصمت" مثلا التي رأيناها تتكرر في مشاهد كثيرة، وما يقابلها أحيانا من دوال الكللام والصوت والصخب، كما ركزت على دلالات الألم والوجع والذكرى، والكتابة نفسها، فيما استثمرت عناصر من ثنائيات التضاد التي نجمت عن شعورها بتناقضات العالم، وبحصاره الخانق الذي يفرضه على ذات تبحث عن جوهر القيم.  ومن الأساليب التي استخدمتها الشاعرة التكرار كأنه صورة من صور الضجر والسأم، لا من صور تأكيد المعنى أو من صور الإيقاع، والتكرار قد يشمل حروفا معينة مثل تكرار حروف الجر أو حروف النفي ، مثل:" لا أفكار، لا وجوه لا أسماء، لا أحداث تخترق العالم ولا تسمعه جامدا بلا حراك، لا تستطيع التقدم، لا أنت حي ولا أنت ميت" / ص 76 ، كما يشمل التكرار تكرار بعض الجمل الشعرية أو العناصر النحوية.  وجماليا وشكليا توزعت النصوص على عدة أشكال مقطعية أحيانا، ومرقمة أحيانا أخرى، فيما استثمرت الشاعرة فعاليات السرد الشعري في إضفاء البعد السردي على بعض النصوص خاصة حين يوجعها التكثيف ويحاصرها التجريد والالتفات الذي شكلت منه بعض النصوص في خطابها لذاتها بضمير المخاطبة " أنت" مثل :" نشيد جارح" / ص 113  أو بضمير الغائبة "هي" كما في نص:"أمسح عن صوتي الغبار" / 59-64 ، ليظل البعد السردي ممسكا بالأفق الكنائي/ الحكائي الذي يعبر ويستطرد أكثر ليضيء أكثر كوامن الذات، وفي نهاية الأمر تقودنا الشاعرة إلى تعبيرها الشعري الدال: تجلسُ وحيدة لتكتبَ قصيدة خالية من الألم والنواح لكنها تفشل تفشل فشلا ذريعا كالعادة في الانفصال الكلي عن المعنى المر لحقيقة العالم.    - See more at: http://elaph.com/Web/Qeraat/2016/8/1103335.html#sthash.yMwEIUxN.dpuf

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوار الذي أجراه معي الشاعر صالح العامري في برنامج (في هواء الكتابة )

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم