كوابيس المبدع





كوابيس المبدع


فتحية الصقرية
تحاول أن تكون طبيعيًا، كائنًا بشريًا عاديًا، يثرثر عن أيّ شيء، ويسمع كلَّ شيء، يضع كل العلاقات تحت مسمَّى واحد، لا يفرِّق بين من يحب، وبين من يتعامل معهم لإنجاز مهمة ما تخص العمل، أو تخص مناسبة سعيدة يحتفي بها، يضع الجميع في خانة واحدة، يوزِّع محبته بالتساوي، يتدخل في شؤون الناس الخاصة، ويتناقل الإشاعات، ورسائل الجمعة، وأخبار الموت والزواج والولادة التي تحدث في العالم، ويتداول صور المناسبات الاجتماعية، والحياة الخاصة، وآخر صرعات المظاهر، ومسابقات الألقاب، عبر جروبات الواتس آب، ومواقع التواصل. تحاول أن توقظ فيك شغف الفضولي، أن تقبَّل فكرة الانضمام لشيء ما، أن تكون عضوًا في مجموعة شُغْلها الشاغل إضاعةُ الوقت، وقتل الفنان بداخلك، لكنك تفشل. تغلق الباب، تغلق هاتفك، وتغطِّي أذنيك بسماعة ضخمة اشتريتَها مؤخرًا لأسباب كثيرة أهمُّها محاولة وضع حاجز بينك وبين صوت ذلك الحيوان المربوط في زاوية ما من ممتلكات الجيران، صوته المذعور الذي ما إن يصلك حتى تسقط في أعماق سحيقة مزدحمة بأسماك متوحشة، ولمنع أحاديث جيرانك العائلية وشجاراتهم، وصراخهم، وبكاء أطفالهم الذي يشلُّ حركتك، ويوزِّع في قلبك دبابيس صغيرة، من التدفق إليك، لا تشرب شايًا، ولا قهوة. تغمض عينيك وتجلس مع قلبك جلسة جدية وصريحة، تقول كلَّ شيء، وتسمع ما يقوله، إلى أن يغلبك النوم، تاركًا رغباتك في أوج نشاطها تتلاطم، مثل موج في بحر هائج، لكن في الواقع أنك تتظاهر بالنوم إلى موعد استيقاظك الذي بعده بنصف ساعة تشرب شايك الثقيل، كما تفعل دائمًا، قبل شروق الشمس، سامحًا لنفسك بالغرق بهدوء، ودون مقاومة في الزهو الباذخ لجماليات اللامرئيّ، متفتِّحًا قبل الضوء والصراخ. ثم تعاود المحاولة، مضطرًا، تجلس مع مجموعة من الناس، يتحدثون عن أشياء لا تمنحهم غير خسارة الوقت، تحاول أن تكون هادئًا مثبتًا حضورك الوهميَّ على الكرسي بنظراتك المتساقطة في كلِّ الاتجاهات، لكنك لا تسمع شيئًا، روحك في مكان ما تطارد لمعانًا يبرق، ويختفي، تطارد أصواتًا تركض في مخيِّلتك، مثل ثيران معذَّبة في حلبة استعراض ضخمة، ثم تنتبه لحظة مغادرة الجميع، تعود لغرفتك موزَّعًا، بالكاد تعرف الطريق، بالكاد تصل، ومقولة إيما أوكون ترنُّ في بالك: "الفنُّ صورة من الروح، والروح بالغة التعقيد، وتمرُّ بالعديد من التغييرات؛ بسبب أقلّ لمسة ممكنة، ولا تستطيع البقاء على صورة واحدة والفن الذي تبتكره غدًا، لن يتمكن إطلاقًا من القبض على الفن الذي كان يمكنك أن تخلقه بالأمس".
من واقع تعاملاتك اليومية لتوفير أمنك المعيشي البسيط، سارق استقرار قلقك وطمأنينة حروبك، ترعبك مهارةُ المقلِّدين، يرعبك هذا التلصُّص، والقنص العلني الخطير المنتشر بقوة في كل مكان، العصيّ على الرقابة، والضبط، المتنامي، المتمدِّد بحرية في بيئة خصبة محميَّة، لا تمتد إليه يد، ولا تلتفت إليه عين، يرعبك التقليد الأعمى، يرعبك النسخ واللصق، يرعبك صمت المقلِّد، وهواياته، وعمله المتقن، ترعبك مقدرةُ السيِّئين والبليدين والفارغين على الصعود السريع، يرعبك طمس روح الفاعل الحقيقي، بدم بارد، ترعبك خططُ الصيادين الكسالى، يرعبك التجاهلُ المقصود لمجوهرات الذات، يرعبك عجزُك عن فعل شيء، عن تغيير شيء، غير نشر مقولة نيقولاي غوغول: "إن بعضَ الناسِ يعيشون في هذا الوجود، لا كشخصيات مستقلة قائمة بذاتها، بل كالبقع واللطخ على شخصيات الآخرين"، أو مقولة هيرمان ميلفيل: "من الأفضل أن تفشل في الإبداع، على أن تنجح في التقليد" على حسابك في الإنستجرام، مرفقًا بلوحة فنية.
لا تصدق ما يقال عنك، إنه محض افتراء، أنت تملك قلبًا رقيقًا هشًا، إن حطَّتْ على طرفه فراشة مال، أنت تشاهد وتتألم، لكن كما دائمًا صوتك خائف ومتردِّد، مختبئ طوال الوقت، معجب بالصمت والمشي الهادئ، ويستمتع بمشاهدتك محشورًا بين نظراتك الشرسة، المأخوذة المندهشة، وبين صراخ روحك المكتوم لا تتوقف، واصل عملك السريَّ، اكتب، اكتب ادعُ القلق لضبط النفس، اكتب بعيدًا عن الضجيج، بعيدًا عن الجماهير، وكلما التقيت في الخارج صدفة بكلمات، مثل سوق، ترويج، إعلانات، مدير مبيعات، وبأصوات تخلط الغث بالسمين والغالي بالرخيص، بأصوات تشجِّعك على توزيع طعامك نصف المستوي على موائد البسطاء، في الأحياء الفقيرة، غيِّر مكانك، اذهب بالاتجاه المعاكس، اذهب إلى ما هو أبعد وأجمل، إلى ما هو أشفُّ وأنقى، اذهب إلى القوة التي تحمي الروح الإنسانية من الانهيار، اذهب بجوارحك إلى هناك، إلى الذي أستطيع أن أسميه شساعة الرؤية، أفق الرائي، النظرة المنتزعة من العمق، موطن الخيال، أشكال الغائب، امتحان البراءة، عين الروح وبريقها، لمعة السرّ الأبدية، قوَّة النور، شغف المضاعف، بريد المتاهة، دليل الضالّ، عودة المنتهي، أصل الكلام، فصول النجوم الأربعة، بلاغة الذاهب، مرونة المستعصي، فوضى الملائكة، مقتنيات الغيوم، مرتع الوضوح، سيرة اللامنتمي، أرض الأحلام والأوهام، رحلة اليقين الشاقَّة، حديقة الصامت، واللانهائيّ المدوِّخ. لا تخَفْ أبدًا، يومًا ما ستعود؛ ستكون حاضرًا، ستعود روحك على شكل غيمة تسير في شوارع المدن والأحياء، وتدخل المقاهي والحانات والحدائق، وتسهر مع العشاق في الشواطئ والشقق الفندقية، تمطر بلا مناسبة، وتغنِّي في أيِّ وقت، لا تخف ستتحدث قصائدك بعدك عن كلِّ شيء.


تعليقات

‏قال وضحى…
الله..عميق ورهيف في آن.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوار الذي أجراه معي الشاعر صالح العامري في برنامج (في هواء الكتابة )

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم