بارانويا الذات المريضة
بارانويا الذات المريضة
جريدة الرؤية
https://alroya.om/ar/writer-blogs/159570-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D9%8A%D8%B6%D8%A9.html
فتحية الصقرية
وأنت في طريقك للعمل، تستيقظ في نفسك غابات ضاجّة، بأصوات كثيرة متداخلة ومتشابكة في بعضها، تدقُّ مثل أجراس ضخمة، تولّت العواصف الشديدة إدامة تأرجُحَها، تريد أن تفعل أشياء كثيرة، أشياء لم تحدث من قبل، أشياء لا تذهب مع الريح، لا تذوب لا تتحلَّل، أشياء قويَّة، صلاحيتها لا تنتهي، أفكارك مثل رحم مشغول بفكرة الخلق والحياة أكثر من اللازم، لا يكفُّ عن بعثرة الأرواح الحيَّة، هنا وهناك؛ لتنجز عملا مهما، عملا نقيًا بلا فوائد، أو مصالح شخصية، بلا تصفيق اتكالي منظَّم، ولا نهمٍ أناني جائر، عملاً لا يمتُّ للمظاهر بصلة، عملا بلا نَسخ، أو إعادة تدوير. أنت بحاجة ليد ثالثة، وثبة وخمس خطوات إضافية، تفكر كثيرًا، واليوم يشبه الأمس، والأمس يشبه الغد، تفكر وتغرق، كلُّك مُلك اللحظة، واللحظة ممتلئة بك، حتى ارتطامك بنفس الجذع الضخم القديم جدًا ذي العروق الممتدة والمتشعِّبة، ذلك الجذع الصلب ذاته، البالغ طولُه مترًا ونصفا، وعرضه أقلّ من نصف متر، الواقف بالضبط في منتصف الطريق، ماذا ستفعل؟ هل ستقول: سأتوقف أخيرًا، ولن أعود؟
أعتقد أنك تفكر، الآن، مثل بلاد في حالة حرب، تعيد ترتيب خططك، ورسم خرائطك، وتوحِّد صفوف جنودك؛ لتعيد الكَرَّة من جديد، تنتصب واقفًا، ثم تكمل سيرك، مزهوًّا بصمودك وثباتك، تمسك بهاتفك النقَّال، تذهب للملاحظات، تضغط (delete) على صفحة كنت كتبتَ عليها مقولة مونغ: "لا أريد أن أكون ملمّاً، بكل ما يجري في العالم، أولا؛ لأنني متعب للغاية، وثانيا؛ لأنه لا جدوى من إصلاح هذا العالم". تجتهد في طرد ما يؤخِّرك، من بالك، تمضي دون تلكّؤ، تمضي وتعتقد أنك الأقوى، حتى وأنت تشاهد وتسمع، كلَّ يوم، صور كلّ أولئك الذين يسقطون بسرعة، وقصصهم، ودون مقاومة أولئك المسحورين بـ (النِّعَم) السهلة، سريعي الميَلان، الكسالى، حدّ التوقف عن التفكير والابتكار، أولئك الذين يتقنون التقليد، ينقلون كلَّ شيء، كل شيء، حتى لو كان خطأ فادحًا، أو تصرُّفًا سيئًا، حتى لو كان شيئًا بلا لمسة فنية، أو جمالية، بلا لمحة خاصة، أو صدق واضح، أولئك الذين لا يعرفون شيئًا عن أنفسهم، عن أسرار أعماقهم عن رؤاهم، عن بصمة أرواحهم، عن ملمس كلماتهم، عن ألوان أصواتهم، حتى وأنت تشاهد وتسمع، كل يوم، صور كل أولئك الذين يتكلمون كثيرًا، وقصصهم، ويقحمون كلمات مثل: مثالي، متطور، نبيل، نزيه، مخلص، أمين، عند الحديث عن العمل، وأفعالهم لا تخلو من رائحة السرقة والمكائد، ومسحة البراءة الكاذبة، أولئك الذين يضعون على بروفايلاتهم صور جيفارا ومالكوم إكس وغاندي، ويتبادلون، في الوقت نفسه، رسائل نصِّية، مثل "قطع الأشجار المثمرة، إعاقة انسياب الطريق، طمر بئر أرتوازيّة ". تقول لنفسك: "لا تتراجع، قف حيث أنت، ثم تقدَّم". أينما تكون قوة مهيمنة، تكون مقاومة." إنك تبذل ما بوسعك لتقدِّم شيئًا مختلفًا، لا تستسلم للإحباط، ولا تخَفْ من الأشباح التي تحاصرك؛ لتقتل فيك شجاعتك، لا تخف من بارانويا الذات المريضة، الواقعة في حبِّ العظمة والتسلُّط معًا، هذه التي تلاحقك في كل مكان، وتحاول الإمساك بك؛ لطمس ذاتك الحقيقية، وتخريب حماستك، لا تقتل انفعالاتك أمامها، ولا تجثو على ركبتيك، قل وافعل، وأنتجْ عملا مميَّزًا. هذه البارانويا يمكن أن تتكسر، وتتحول إلى فتات تجمعه فيما بعد في سلَّة المهملات. لن تستطيع هذه البارانويا حذفَك، كما يعتقد صاحبُها "العبقري"، الذي يناسبه الشطر الثاني من قول الفيلسوف الصيني، لاو تسيو: "الذين يتكلمون لا يعرفون"، لا يمكنها ذلك، أنت تملك إمكانات هائلة، لديك قوة غير مرئيَّة، يمكنها تحطيم الوهم، وواجهات اللمعان المخادع. الذين غابوا طويلا؛ ليحصلوا على لقب طويل قبل أسمائهم، ثم عادوا ليشغلوا مقعدًا، كان أجمل بدونهم، عادوا كما هم، دون تغيير يذكر في الوعي والمعرفة والانفتاح على العالم، عادوا بأفكارهم القديمة، عادوا بزمن بارد مقيَّد، محكوم بالنمطية والأيديولوجيا والبيروقراطيّة، هم في الحقيقة يستطيعون فقط السيطرة على الضعفاء، على من هم على استعداد دائم لمحو ذاتيتهم، والسير مع التطابق والتشابه. أنت لا تستطيع السير كالأعمى، لا تستطيع أن تقول "نعم"، بدافع الشفقة، أو الخوف، أنت متقدم بخطوات كثيرة، أنت لا تريد أن تشبه أحدًا، تريد أن تكون أنت، باختلافك، وجنونك، وانفعالاتك، ونقدك، ورفضك للعادي والمألوف والمتشابه، مشغول برسم طريقك الخاص، مشغول بما يجهله كثيرون عن الإنسان والحياة، مشغول بأشياء لم يلمسها أحد من قبل، مشغول بتثبيت لوحة جديدة في مكتبك، تحمل ما قاله كاري ستيفانسون رئيس شركة ديكود الأيسلندية التي أجرت دراسة حول العلاقة بين الإبداع والجنون: "لتكون مبدعًا، عليك أن تفكّر بطريقةٍ مختلفة"، مشغول بإرسال رسالة (واتسبية) لأصدقائك المقرَّبين: "عندما نكون مختلفين، يصبح هناك ميل لأن نُدعى بالغريبين، المخبولين، وحتّى بالمجانين".
شيء ما لا ينتهي، شيء ما لا تعرف كيف تحدِّد شكله، أو لونه. شيء ما يهرب عندما تتكلم، ويعود عندما تصمت، لا تتنبَّأ بما سيحدث لك في الأيام المقبلة، لكن عندما ينتابك ذلك الشعور الغامض الذي لا تستطيع قوله، تجلس مع صمويل بيكيت في انتظار جودو، تحت شجرة لا ينتهي ظلُّها أبدًا، متماهيًا، تتنقّل بأرواح إستراجون وفلاديمير وبوزو ولاكي، لعدّةأيام، أو قُل لعدّة أشهر.
تعليقات