لأنَّ العالم سينتهي






لأنَّ العالم سينتهي

فتحيّة الصقري
الذين يعيشون في بيت واحد، الذين يعيشون في بلد واحد، الذين يضربون رؤوس بعضهم بالمطارق "علينا أن نتعلم العيش معًا كإخوة"، لأن العالم سينتهي. لم يعد بإمكان عشَّاق العزلة اليوم أن يخلصوا في محبَّتهم لها، لم يعد بإمكانهم منحها اهتمامهم الكامل؛ لأنهم مُعرَّضون للنهب، في كل وقت، مُعرَّضون للسرقة، لم يعد بإمكانهم اللعب والضحك مع الصمت والغياب كما كانوا يفعلون.
هناك قوى خفيَّة تسحبهم للخارج، هناك شيء غامض يغزو مخبأهم، يكبر ويتّسع. هناك فم لا يتعب من الكلام، هناك عيون على اتصال مباشر بالعالم الخارجي، تعيش معهم. صار بإمكانهم ببساطة، ودون جهد حقيقي، رؤية العالم عاريًا، صار بإمكانهم لمسه، ومشاهدة الدخان الأسود يخرج من أصابعهم. صار بإمكانهم الاصطدام بالصخور والسقوط في الحفر، كل يوم.
إنهم يحملون، كلّ يوم، همَّ التخلُّص من الكلمات التي سقطت، دون مشقّة، من أفواه أصحابها؛ الكلمات المشغولة بالمكرَّر والمعاد، المشغولة بأشياء بعيدة جدًا عن قدرات الإنسان الهائلة للخلق والاكتشاف والابتكار، الكلمات التي على علاقة وطيدة بالأهواء الشخصية، والطبيعة الجافَّة، الكلمات التي تُسقط يوميًا ثمارًا فاسدة، فوق زجاج العين، الكلمات التي لم يستطيعوا إتلافها ولا كسرها، حاولوا أن يصنعوا منها مقاعد، يضعونها بجانب نوافذهم المفتوحة؛ ليتمكنوا من قراءة رسائل النجوم المتلألئة، حول الكواكب، لكنها عصيَّة على التغيير، ولا تصلح أن تكون غير سياج شائك.
الكلام، الأفعال، المشاهَد، النظرات، الأفكار المتدحرجة كأحجار صمّاء، من مناطق مظلمة، كل شيء، كل شيء يؤلم هذا الكائن الذي لا أريد أن أكونه. أن نختلف، أن ننتقد، أن نقترح، أن نحاور، أن نناقش، لا يعني أن نمسك سكِّينًا، أو آلة حادّة، أو عود ثقاب مشتعل، لا يعني أن ننتزع طمأنينة الآخر، يعني أن نستدعي نظرة الحكيم، وروح الفيلسوف، وجدية المتفائل، ونباهة القلِق على إخوته وبلاده.
احتفِلْ بوجودك، غَذِّ سعادتك بالمعرفة، يدك في يد الآخرين، لجعل الطريق إلى الحرية والإنسانية سالكًا، كأنك تمشي بخفّة المتفائل، في شارع الألفة، هادئًا كأغنية حبّ، وكل غصن تلمسه لا تسقط عصافيره، ولا تفرّ هاربة، كأنك، وأنت تمشي، ترتِّب للقمر مقعدًا دائمًا في صوتك، توقظه بانفعال سليم، بغضب مسالم، بقلق نافع باصطدام غير مؤذ، مثل كائن يحلم أن يشهد انتصارًا ساحقًا لـ (عصر التنوير) قبل أن يموت.
لا شأن لي بما مضى سأمزِّق جميع الصفحات، وأطعمها النار؛ لتصبح رمادًا، كما لو أنها لم تحدث، كما لو أنها لم تشقَّ قلبي، لم تجزِّئني، ولم تقتلني عشرات المرّات، سأسمح لنفسي، هذه المرّة، بالغرق الحرّ في الأحلام.
سأحرِّر رغبة مراهقة، تفكر بالاحتفال، وإعلان التمنيّات السعيدة، رغبة سأسمح لها لمرّة واحدة بالخروج، دون أن يختفي صوت إمبرتو إيكو الذي يرنّ في بالي الآن: "مواقع التواصل تمنح حقّ الكلام لفيالق من الحمقى".
سأكذب قليلًا، وأحلم بعام جديد، أرى فيه السلام يتحدّث بنبرة الواثق، يتحدّث بسعادة الموجود والمرئيّ، أرى فيه الطمأنينة تجلس مرتاحة بيننا، أرى فيه الجمال الإنساني فتيًّا ويافعًا.
يا له من عمل شاقّ أن تقوم بحماية حلم صغير، مثل هذا من التلاشي، إنها مهمّة صعبة للغاية، ما إن أبدأ بذلك تقاطعني الأسئلة، تقاطعني بفظاظة: كيف يمكن تجاوز كلّ هذه الجبال بأحجارها المتساقطة التي تقطع الطريق مزهوَّة بقدرتها على إسكات المشي؟.
أنا الهاربة إلى نعيم عزلتي الحيّ، إلى دفئها اللطيف، إلى سلامها المؤمن بقطعة كريشنا مورتي الذهبية: "لا يجوز لك أبدًا أن تظل هنا أكثر مما ينبغي؛ كن من البعد بحيث لا يكون بمُستطاعهم أن يجدوك، أن يمسكوا بك ليشكِّلوك، ليُقَوْلبوك. كن بعيدًا جدًّا، كالجبال، كالهواء غير الملوَّث؛ كن من البعد، بحيث لا يكون لك أهل، ولا علاقات، ولا أسرة، ولا وطن؛ كن من البعد بحيث لا تعرف حتى أين أنت. إياك أن تدَعهم يعثرون عليك؛ إياك أن تحتكَّ بهم احتكاكًا ألصق مما ينبغي. ابْقَ بعيدًا جدًّا حيث حتى أنت لا تقدر أن تجد نفسك"، يسحبني تيّار أحمق إلى فضاء مشحون بطاقات سلبيّة.
إنني أحدِّق في الساعة طوال الوقت، وأقضم أظافري بقسوة، لماذا عليَّ أن ألتقي بكل هذه الأسطوانات الرثَّة التي تبثُّ تسجيلات يوميَّة، تتحدّث دون توقُّف بلغة صفراء، بلغة باهتة، بلغة سخيفة، تُربِّي الحشرات السامَّة.
مئات الساعات تختنق باللاجدوى، مئات الساعات تضيع، تسقط كأجنة فاسدة من رحم الأيام، لم يتمكّن الغياب من سرقتي؛ لأنني مصلوبة، مصلوبة في العراء، تصفعني الشمس الغاضبة، والهواء اللزج، مصلوبة في بقعة لا تصلح لكائن مثلي، يكره الوقوف الطويل، تحت هذا الضوء الملوَّث الملتفّ على الدوام بأعمدة فولاذيَّة.
يقلقني قلقُ الطريق، تساقطُ الأوراق، ضحكُ المارَّة الخافت، غضبهم السريع، مشدودةٌ للمنسيّ، للبسيط، للمهمل، أصير طريقًا لشيء ضائع، أصير بيتًا لنجمة مشرَّدة، أصير قميصًا صوفيًّا لجسد بارد، البعيد يصبح قريبًا جدًّا من قلبي، ومن يدي.
الأصوات، النظرات، الأرواح، الأفكار الحدائق النائمة أشجارٌ حزينة، حبيسة عتمة سيّئة، أشجارٌ معذَّبة تهمس سرًّا لمن يمرُّ بجوارها (أشتهي الهواء، النور، الماء العذب، حرِّرْني).
إنني أسمعها بوضوح، بوضوحٍ تام، كما أسمع في الوقت نفسه ضحكة خوفي العالية.
*مارتن لوثر كينج
 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوار الذي أجراه معي الشاعر صالح العامري في برنامج (في هواء الكتابة )

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم