التدمير الخلّاق

التدمير الخلّاق

فتحية الصقري
كلُّ ما يحيط بنا مَدْعاة للشك، ومدعاة للتساؤل ومحرِّض قويٌّ لدوام القلق، إننا أمام مشهد حيّ في ظاهره، ميِّت في باطنه، أمام مشهد لا يتغيّر. أتساءل، ونحن في القرن الحادي والعشرين، عن القفزات الهائلة التي ألقت بنا في ذلك العالم المتطوِّر الوهمي؟
إننا متأخرون جدًا، وعلينا جميعًا أن نفعل شيئًا، حيال هذا الوضع البائس، علينا البحث بجِديَّة عن الطرق والوسائل؛ لخلق مِساحات واسعة للإبداع، أن نترك له الباب مفتوحًا، أن نستقبله بترحاب، أن نعامله بمزيد من الاهتمام، كشخص عزيز لا نودُّ مفارقته، وأن نقول له: شكرًا لمجيئك، سنجلس معك على طاولة واحدة، وسنتحدّث كثيرًا عن رعاية روح الجديد؛ من أجل الإنسان وحده، أليس الإبداع هو الانقطاع المفاجىء عن الغباء، كما قال أدوين لاند؟
ثمّة ما هو مفقود، كلُّ شيء ينبع من القلب يُطيل عمر الشَّغَف، ويخلق شيئًا رائعًا، شيئًا يمكنه أن يقول للناظر إليه: أنا ابنُ الفنِّ والحرية، ووحدهم أولئك الذين يملكون مهارات قيادية فذّة يحوِّلون المكان المشحون بالأعباء الوظيفية، إلى مكان آمن يعمل فيه المرء، كما لو كان يمارس هواياته المفضَّلة، تستحيل فيه الروح القلقة إلى روح خالقة ومبدعة.
أنت يا أيها المنتظر الجالس في مكانك، منذ قرون، دون انتباهٍ يُذكَر لوقتك المهدور، انظر لقدراتك وميولك وإمكاناتك، انظر إليها بعين الموعود بأدوات ثمينة.
بإمكانك التقدُّم خطوة، وفتح الباب الذي أغلقتَه على نفسك، بإمكانك أن تمنح كَسَلك إجازة طويلة، بَدءًا من اليوم، بإمكانك أن تحرِّر فكرك، أن تسير مع طاقاتك المتدفِّقة، وإغناء حياتك اليومية، بإمكانك الرَّكضُ بحُرِّية في حقل أفكارك، وقطف ثمار حلوة تكون غذاء جيّدًا لمولود جديد، كالشَّغَف.
أما أولئك الذين يدمّرون روح العمل بالـ "أنا" العالية، بالتفكير الأناني، بالمحاولات الدائمة لإلغاء دور الآخرين، بتهميشالحُرّ، بالمساواة بين النور والعتمة، بالسماح لعَيِّنات مخرِّبة بالنمو والازدهار، باللامبالاة المدعومة بـ "حافظ على مصالحي، وأَخْدُمُك" بالتصفيق للأشخاص الخطأ، بإهمال عملية التفكُّك التي تحدث في الفريق الواحد، بتمزيق المِظلَّة الواحدة، بالسَّهَر على حذف الجيِّد؛ لسبب يعود لدوافع شخصية، بتشويه التُّرْبة الصالحة للزراعة، فهم مشغولون بصناعة اللاشيء.
إذ إنّ كلَّ شيء يسيطر عليه الـتـسـلُّـط، والبيروقراطية، وعقلية السوق، يصبح مدمِّرًا لحياة الإبداع، وعائلته، وقاتلًا للفكرة الحُرَّة، ومُحطِّمًا للجسور وللطرق التي تقود للتأمل والتفكير والابتكار.
يحضرني ما كتبه هاشم صالح، في مقاله: "بودلير: شاعر الحداثة" عن الإبداع؛ لأنه يوصلني بشكل ما لما هو جليٌّ، وواضح في الواقع، وأنا أفكِّر في (جروبات العمل) أيضًا داخل (الواتس أب) ومُسمَّاها الخطأ؛ لأنّ ما يحدث فيها بعيدٌ جدًا عن ما أُنشِئت من أجله، فهي ليست سوى فصلٍ مُكرَّرٍ من اللامعنى، أو نسخة طبق الأصل من العبث واللاجدوى، وما هي إلا رعاية فائقة لأيدولوجيّات مدمِّرة. يقول صالح: "هم يُريدونه أن يتَّكئ على غيره، ويكرِّر نفس الكلام المفهوم، أيْ المُجتَرّ المكرور، منذ مئات السنين.. ذلك أنّ الشيء الطبيعي والعقلاني هو أن تقلِّد الآخرين ممّن سبقوك، وألا تفاجئ الناس بأشياء جديدة، تَخْرج عن حدود المألوف، أو المعقول. وإلا فإنك سوف تصدم الذائقة المحيطة، السائدة، الراسخة في العقلية الجماعية".
إنّ ما يثير الدهشة والاستغراب هو الكمُّ الهائل من الكلام، والأحاديث المتعلِّقة بالتطوير والتنمية، فيما نشهد، على نحو واضح، توقُّفَ العملية الإبداعية في الحياة، وفي العمل، وأحيانًا أستطيع القول: سيرها البطيء والمتقطِّع، ونحن في القرن الحادي والعشرين، لا يزال البعض يعمل بأفكار وأدوات زمنٍ قديم مضى، بدءًا من التواصل البطيء البعيد عن التقنية الحديثة، وانتهاءً بالأخطاء الفادحة في بعض المواد التوعوية المنشورة، مثل (البوسترات) والملصقات والكتيبات والأفلام، فهي تحتفظ بالعادي والمستهلَك، وبالأخطاء النَّحْويَّة والإملائية واللغوية، والعيوب الفنيَّة، وعلى هذا النحو تُولَد أزمات أخرى، داخل المجتمع تضرُّ بالعملية التنويرية المزعومة، وما هي إلا إهدار للطاقات، وتبديد للجهود، واستنزاف للأموال في أعمال ينقصها الإتقان والجودة، هي المولودة على عجَل، على نحو فَكَّر بالكمّ، ولم يفكِّر بالنوع، أعمال آنيَّة، طغى عليها الشكل، وغاب عنها المضمون، ذات عمر قصير، بلا أثَر، ولا ذاكرة.
أقول: أين أولئك الذين يقاطعون كلام العادي والمستهلك والمألوف، وأفعاله، أولئك الذين ينظرون بتَرَوٍّ في وجه البيروقراطية؛ لابتكار ما يجعل صوتَها يشبه صوت ماكينة معطَّلة، أولئك الذين يُمسكون بالجوهر في الأشياء، ويعتذرون عن الإمعان في المظهر، ثم تقاطعني في الوقت ذاته: لا جدوى من ركضك المستميت، بالغ الشراسة، أيها المتحمِّس، توقَّفْ عندَ كلِّ بداية، في الطريق ستسقط عليك الشهب، والأحجار، واللعنات.
لكن هناك طرق كثيرة يمكننا من خلالها التفوُّق على الكسل، والاتكاليّة، فقط علينا أن نُصغي بشكل دقيق، دقيق جدًا؛ لندرك، ثمّ لنعرف، ونعي، نتعلَّم بالإصغاء، لما تقوله الأشياء مِن حولنا، ألا نكون أبدًا أداةً سهلة لفكرة جاهزة لا تصلح للاستخدام الإنساني، في الوقت الراهن.
طوِّر ثقتك بنفسك، بقدراتك، بمهاراتك، بروحك الخلاقة، بنظرتك الجادّة للخروج إلى النور، التفت لذاتك، حرِّرْها، واصنع من نفسك فريقًا توّاقًا للفوز، كارهًا للهزيمة.
 
 
 

http://alroya.om/ar/writer-blogs/133177-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%91%D8%A7%D9%82.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم

ليستْ كلُّ الأشياءِ مسلّية