الذي يعمل بصمت تحت شمس الظهيرة



رابط المقال
http://alroya.om/ar/writer-blogs/123595-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%8A%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%A8%D8%B5%D9%85%D8%AA-%D8%AA%D8%AD%D8%AA-%D8%B4%D9%85%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B8%D9%87%D9%8A%D8%B1%D8%A9.html







الذي يعمل بصمت تحت شمس الظهيرة


فتحية الصقرية
مَنْ منَّا لا تتقافز أمامه علامات التعجب والاستغراب، حين يصطدم بمشهد لرجل ناضج، أو لشاب في مُقتبل العمر يرمي من نافذة سيارته كيساً (يحتوي على مخلفات لطعامه، أو لأشياء فرغ من استخدامها) في الشارع؟ أو بمشهد لعائلة تقرر مغادرة المكان الذي جلست فيه يومًا كاملاً، أو نصف يوم، في رحلة خارج البيت، ممتلئاً بالعلب الفارغة والأكياس البلاستيكية والأوراق؟ أو بمشهد لشباب يخربون جمال حديقة، تحت نوبة من الضحك المتواصل؟ أو بمشهد رمي أكياس القمامة، خارج المكان المخصص لها؟ أو حين يرى رؤوس السمر على امتداد الشارع، وقد تغطت بقبعات بلاستيكية ملونة، أصلها أكياس رمتها أيد غير مكترثة لحجم ما تفعله، وحجم ما تسببه من جرح لجمال الطبيعة؟
لا شيء يستولي عليك، عند حضور هذه المشاهد، غير الأسئلة المتساقطة بغزارة؛ لتملأ رأسك الذي تحول إلى حفرة عميقة:
هل تعتني بضميرك جيدًا؟ وتخاف عليه من الخمول والكسل؟ ومن الغياب الطويل؟ هل يُواصل عمله، كما يجب، كحارس أمين، مثلاً، لا يغمض عينيه متعمداً؟ أو كموظف مُخلص لا يتوقف عن تنبيهك لحظة مرور الخطأ؛ حتى تشير إليه بأصابعك العشر في وضح النهار، وتصر على ملاحقته، والقضاء عليه -أعني الخطأ خاصة ذلك الذي يؤذي عدداً كبيراً من الناس؟
من ينتظر هؤلاء.. ليقوم بمهمة التنظيف والإصلاح عنهم؟!!
هل ينتظرون عامل النظافة؟!
من غير المعقول والممكن أن يمشي خلف كل مواطن عامل نظافة!
أليس الإنسان والطبيعة والحيوان من سيتأثر بتكرار هذه المشاهد، وهذه التصرفات؟!
هل هناك من يرى أنَّ الأمر طبيعي، ولا توجد أية ظاهرة تهدد المدينة النظيفة بضربة موجعة؟
هل ثقافة النظافة موجودة، ويمكن لحظها دون تمعُّن كثير مثل شمس في نهار صائف؟
هكذا تنهمر الأسئلة الباحثة عن إجابات.
تنمية الشعور بالمسؤولية لا يحتاج إلى قدرات هائلة، أو إمكانات عظيمة، أو جهود جبارة، ولا يحتاج أيضاً لطاقات كلامية، وشعارات رنانة، بل يمكن للسلوك وحده أن يكون طريقًا سهلاً لتحقيقه، ومنه تنشأ ثقافة النظافة، وكلنا شركاء في صناعة صورتها الجميلة الواضحة، وكلنا شركاء أيضاً في مهمة نشرها بشكل صادق، يُحدث ذلك الدوي المبهر اللافت في النفوس، كلنا شركاء: أنا وأنت والأب والأم والمعلم، وكل من هو معني بالتربية والتوعية والتعليم، كلنا شركاء في صياغة وإعداد وإدارة المشهد العام السليم الذي تنطلق خطواته الأولى والأساسية من البيت، ثم تعمل المدرسة على تطويرها ثم الشارع على ثباته وصحته، وعلى عمليات البناء والتربية ألا تتوقف، ألا تتوقف أبداً.
أستحضر هنا من معجم الأمثال الصينية التي يقوم بترجمتها الدكتور شاكر لعيبي "شجاعة قطرة الماء أنها تسقط في الصحراء"، و"الجالس في قعر البئر؛ ليتأمل السماء، يجدها صغيرة" المثل الأول، على نحو، ما يقول لي إن آلاف الصور المدهشة ستأتي بعد الإيمان بقدرة الإنسان على الإبداع والتطوير، وبالحفاظ على الاثنين معاً، أعني الإبداع والتطوير، يصبح الذي كنا نحسبه مستحيلاً ممكنًا، وعلينا أن نعمل على ذلك بدقة، وبحرص بالغ. أما الثاني، فهو يختصر قصة أولئك الذين ينظرون للأمر برمته من مكان بعيد جداً؛ فيعتقدون أنه لا يحتاج إلى نظرة عميقة، أو حتى إلى دراسة حقيقية، ومعالجة عاجلة.. وحده ذلك القريب جداً من يدرك خطورة التغاضي عما يهدد الجمال بالتشوه والزوال.
... إنَّ جَمَال المدن وأناقتها يتحقق بالاهتمام الحقيقي من الجميع؛ بالاهتمام الواسع الذي يحارب نمو نظرة الانتقاص التي لا تزال عالقةً في أذهان غير قليل من الناس عن عامل النظافة؛ الاهتمام الذي يغير عادات بعض المواطنين النابعة من اعتقادات خاطئة، عن المسؤولية في النظافة وحصرها، على نحو تطفلي، اتكالي، بعامل النظافة، وحده.
إذن؛ نحن مُطالبون جميعاً بالانتباه والالتفات؛ لكسر كل حاجز يعوق تقدمنا؛ لتحقيق ثقافة النظافة؛ لأنها ليست مسؤولية فرد واحد، أو مؤسسة أو مجموعة بعينها فقط، إنها مسؤولية الجميع، الجميع دون استثناء.
أميل إلى ما قالته هيلين كيلر (1880-1968) الناشطة الأمريكية التي تعد أحد رموز الإرادة الإنسانية، وأجد أن هذه العبارة المكتنزة بالصدق، إنْ تحققت في مجتمع ما فسيكون ذلك أشبه بمعجزة؛ سيكون مجتمعاً قادراً على تخطي العقبات، قادراً على صناعة مشهده الصحي الذي تتدفق منه، أبداً، أشكال الإبداع، وتضحك فيه صور الجمال و الطبيعة والحياة.
"فقط أولئك الذين يفكرون، ويشعرون، ويعملون معًا، يصنعون الحضارة".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع جريدة الحياة

صباحُ الخيرِ، أيُّها العالم

ليستْ كلُّ الأشياءِ مسلّية